بناء الشخصية الإنسانية.. في رحاب فاطمة الزهراء عليها السلام
د. الشيخ عماد الكاظمي
إنَّ من أعظم أهداف أهل البيت عليهم السلام في الأمة هو البناء التربوي للفرد والمجتمع، وإيجاد الأسرة الصالحة التي يمكن أنْ تكون مصدر عطاء وخير لأبنائها، ولو أنَّنا تأمَّلنا سيرتهم وفي جميع الأحوال لرأينا ذلك جليًّا، وعلى مستويات مختلفة متعددة، ولمّا كانت المرأة ذات أهمية كبيرة، ولها دور في ذلك البناء رأينا مدى ﭐعتناء تعاليم الشريعة الإسلامية بها، وهي في مراحلها المختلفة من حياتها.
في هذا المقال نحاول أنْ نسلط الضوء على مراحل ثلاث من ذلك، ونقرأ دور الصديقة الزهراء عليها السلام في بناء الشخصية الإنسانية، وتحصين أفراد الأسرة من كُلِّ أنواع الانحرافات والزيغ.
1-البنت: لقد ﭐعتنى الإسلام من خلال تعاليمه بالبنات ومقامها بين أبويها، ورغَّب في حُبِّهِنَّ، وتكريمهنَّ، والاهتمام بهنَّ، بخلاف ما كانت عليه البنت أيام الجاهلية العمياء، التي أعمى بصيرتها الكفر والإلحاد، فأُطفأت نور فطرتها التي فطرها الله عليها، فقامت بعض تلك المجتمعات بأبشع الجرائم الإنسانية بحق بناتها من القتل بدفنها وهي حيّة تصرخ وتستنجد بأبيها، وهو يدفنها بكُلِّ قسوة ووحشية، فاستجاب لصرختها خالقها البرّ الرحيم وأعلن مظلوميتها على الخلائق أجمعين متسائلًا: ﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾ فانتصرت البنت بنور الإسلام، ووُضِعَت في مقام عظيم.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((نِعْمَ الْوُلْدُ الْبَنَاتُ الْمُخَدَّرَاتُ، مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ وَاحِدَةٌ جَعَلَهَا اللهُ سِتْرًا لَهُ مِنَ النَّارِ))، وعن الإمام الصادق عليه السلام: ((الْبَنَاتُ حَسَنَاتٌ، وَالْوَلَدُ نِعْمَةٌ، وَالْحَسَنَاتُ يُثَابُ عَلَيْهَا، وَالنِّعْمَةُ مَسْؤُوْلٌ عَنْهَا))، وهكذا أثمرت هذه التربية الصالحة للبنت، فكانت الزهراء عليها السلام أعظم مثالٍ لكُلِّ بنت، وعاشت بين أحضان أبيها وأمها (الوالدان) فتعلّمت منهما التربية العظيمة، والأخلاق الصالحة، والبر والمودة والاحترام، والكلمة الطيبة، والطاعة للوالدين، والعبادة لله تعالى، فكانت تراهما كالشمس في النهار، وكالقمر في الليل، فلا ينقطعا عن عطائهما لها، ولا تنقطع عن الاستمداد منهما، ولم تعترض عليهما يومًا، ولم يُجْبِراها على خُلُقٍ وطاعَةٍ ساعةً، (حتى غدَت فاطمة نِعْم البنت الصالحة) التي يضرب بها المثل بين الأبناء.. فعلينا أنْ نبني شخصية بناتنا أسوة بتلك البنت الكريمة.
2-الزوجة: إنَّ الزوجة من أهم رُكْنَي الأسرة القائمة عليها وعلى الزوج، بعدما كانت الزوجة قبل نور الإسلام تُعَامل معاملة سيئة، وقد عظّم الإسلام الزواج وشأنيته، بل جعله من آياته العظيمة، فقال تعالى: ﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (مِنْ سَعَادَةِ الْمَرْءِ الزَّوْجَةُ الصَّالِحَةُ)، وروي عن الإمام الباقر عليه السلام: (مَا أَفَادَ عَبْدٌ فَائِدَةً خَيْرٌ مِنْ زَوْجَةٍ صَالِحَةٍ، إِذَا رَآهَا سَرَّتْهُ، وَإِذَا غَابَ عَنْهَا حَفِظَتْهُ فِيْ نَفْسِهَا وَمَالِهِ).
فالزواج الناجح هو القائم على معرفة عظمته ومقامه، والزوجة هي التي تعرف معنى الزواج، والزوجية، والزوج، وحقوق هذه الرابطة الإلهية العظيمة، فتعينه على حاجاته الجسدية والروحية، وتصبر معه على بلاء الدنيا وأذاها، وتشجعه على الحق، والخير، والبر، والعمل الصالح، والجهاد من أجل المبادىء والأخلاق والدين.
وكانت الزهراء عليها السلام ترى زوجها سيّد رجال الدنيا، وحافظ كيانها، ومأواها، ومنتهاها، ورفيقها في بناء سعادتها البشرية، (فغدت فاطمة نِعْمَ الزوجة الصالحة) التي يضرب بها المثل في الزوجات الصالحات، حتى صار لسان الدنيا والآخرة يقول (بيت علي وفاطمة...)
3-الأم: إنَّ البنت بعد أنْ تقطع شطر حياتها بين أبويها، تتربى في أحضانهما، ثم تعيش مع زوج صالح فيقوما بتأسيس بيت زوجي، يكون المنطلق للمجتمع من خلال تربية الأبناء تربية صالحة، فالأم عليها مسؤولية عظيمة تجاه أبنائها، تغذيهم من أخلاقها، وهي المربّية التي تعرف معنى الأبناء، وأثرهم، وخطرهم، ومستقبلهم، فَغَذَّتهم من روحها لا من لَبَنِها فقط، وعملت فَعَلَّمتهم الأخلاق لا تُلَقِّنَهم الألفاظ فقط، وكانت مرآة صالحة للتربية، والمُربية، والأم المجاهدة ليلًا ونهارًا؛ ليراها أولادها صورة مشرقة في كُلِّ زوايا البيت، بل في كُلِّ خبايا الروح، فلا تفارقهم صورة الكلمة الطيبة ولحن صوتها، ولا تفارقهم صورة العابدة بين يدي ربِّها وأنين دعائها، ولا تفارقهم كلماتها: ولدي. ﭐبنتي .. أولادي أريدكم أنْ تكونوا مثل أبيكم في الأخلاق، والتربية، والعلم، والعمل، والعبادة، ومساعدة الآخرين، وبر الوالدين، وحسن الجوار، وصلة الرحم، وﭐحترام كُلِّ الناس، فتزرع في نفوسهم بذرة حب هذه المُثُل والقدوة الصالحة إليها؛ لتبقى هذه الكلمات والأفعال التي يرونَها ليلًا ونهارًا نورًا يضيء لهم الدرب في ظلمات لهو ولذات وشهوات هذه الحياة، وتبقى الأمُّ مثالَ التربية في البيت الذي سيبني الأسرة، لأن الأم مدرسة إنْ أعددتها أعددت شعبًا... (فغدت الزهراء فاطمة نِعْمَ الأم الصالحة المربّية) التي يضرب بها المثل بين الأمهات ..
من هنا، يجب علينا أنْ نعرَّفَ الناس بها في عصر الظلمات والجهل والشهوات، حتى أصبحت أمَّ أبيها، فأبوها الإسلام والإنسانية والرحمة، وهي أُمُّ ذلك كُلِّهِ، وغَدَا بيتها الذي يفخر به الله ليكون البيت الذي أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرًا.
وهل المجتمع إلا (الأولاد، والآباء، والأزواج) فبالتأسّي بفاطمة قولاً وعملاً يمكن أنْ نبني الشخصية الإنسانية للفرد والمجتمع، من خلال تربية البنت على وفق ذلك المنهج الذي وضع أسسه من أرسله الله رحمة للعالمين، وكان على خلقٍ عظيم.
ونحن أمام مسؤولية كبيرة اليوم من خلال تلك التحديات التي تواجه المنظومة الأخلاقية للمجتمع، من أجل هدم كيان الأسرة، وتفكيك تلك العلاقات الإلهية بينها بأساليب مختلفة ومتعددة، وعلينا الحذر التام لنحافظ على الشخصية الإنسانية الإسلامية التي أنعم الله تعالى بها علينا.