بين الدكتاتورية والمنطق البراغماتي

يذكر التاريخ أن أمير المؤمنين عليا عليه السلام اعترض على قرار (الخليفة الأول) الفردي الذي لا يقبل الرجعة في تولية (الخليفة الثاني) زمام الامور القيادية في الاسلام، غير أن الذي لا أرتاب فيه أن الأنصار أو أغلبيتهم الساحقة لم يرتضوا من (الخليفة الأول) هذا القرار الفردي الخطير، والأنصار إما أنهم أعلنوا عن ذلك الاعتراض، وإما أنهم أضمروه في قلوبهم، وعلى كل من التقديرين لا تستسيغ الأنصار الخليفة الثاني ولا أن الأخير  يستسيغ الانصار.
وآية ذلك أن (الخليفة الثاني) وبالذات حينما مسك زمام القيادة باعتباره سلطان الوقت آنئذ لم يولهم عناية قليلة أو كثيرة وأبعدهم عن عمد عن مناطق التأثير في الادارة الاسلامية فلم يشركهم في ولاية أو قيادة او ما يشبه ذلك.
وهذه بعض المسلمات التي تقودنا للقول بأن الانصار (غالب الانصار) في صف  أمير المؤمنين علي -عليه السلام- ولا أقل من المعارضة لقرار الخليفة (الأول) الفردي، الذي اتخذه ولم يستشر أحدا من الانس والجن ولكن هل يجرؤ (الخليفة الأول) على مثل هذا الامر وعلى الاستبداد بالرأي دون المسلمين؟
نعم، حدثنا المؤرخون أنه استشار عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وقد رضيا برأي الخليفة غاية الرضا وقبلاه قبولا حسنا، وأكثر من ذلك هو أن (الخليفة الأول) قبل اغماضته الأخيرة أغمي عليه فاجتهد عثمان برأيه هو الآخر وكتب اسم عمر وهو أمر أفرح الخليفة كثيرا لمّا استردّ شيئا من وعيه..
وأيّا كان الأمر فقرار الخليفة يكشف عن حقيقتين:
الأولى: القرار الفردي الذي لم يرض به بنو هاشم عموما وغالبية الأنصار الساحقة وهو قرار يصطلح عليه علماء السياسة بالقرار الديكتاتوري.
الثانية: لم ينبئ التاريخ الاسلامي أن  أحدا رضي بهذا القرار أو بارك له إلا عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان ومن نسج على منوالهما وهم قريش ما في ذلك شك، فانك اذا أخرجت بني هاشم والانصار من حلبة الصراع لم تبق الا قريش، وقريش لا تفهم أو لا تستطيع ان تفهم الامور إلا من خلال ذلك المنطق وبأية وسيلة.
هذه المزاوجة بين الديكتاتورية وبين المنطق النفعي درب لاحب لقريش في استعادة عرشها الجاهلي الضائع ولعمري فقد استعادته حينما تأسست دولة بني أمية على دماء الاسلام المذبوح وحينما استطالت على جسد الضمير المقتول..
قيادة الظل(إدارة الخط الخلفي)
من أخطر التساؤلات التي تطرح نفسها على طاولة البحث بإصرار هو ما يتعلق بعبد الرحمن بن عوف؛ تلك الشخصية العجيبة الغريبة.
أتى عبد الرحمن بن عوف المدينة مهاجرا وهو لا يملك قليلا او كثيرا، وما أن مضى شيء قليل من الزمان حتى صار يشار الى ثروته بالبنان، فهل هذا معقول؟
تنقل بعض النصوص التاريخية الساذجة أن لعبد الرحمن بن عوف حظا جيدا وطالعا حسنا أخذ به من صحراء الفقر الجرداء الى بحبوحة الثروة اليانعة الخضراء، ومن الطريف ان نصطنع مقايسة بين هذا المبدأ في تفسير الظواهر التاريخية الصارخة وبين المبدأ الذي على أساسه كتب نيقولا ميكافلي كتاب الامير.
قال ميكافلي المتزلف للأمراء في رسالة ارفقها بكتاب الامير الذي ارسله هدية للحاكم لورنزو:
إذا تلطفتم فاتبعتم ما في هذا الكتاب فستدركون ان رغبتي العارمة تقوم في ان أراكم تصلون الى تلك العظمة التي تؤهلكم لها مواهبكم الشخصية وسعد طالعكم .
لا ضير ان أستطرد قليلا لأشير فقط الى ان التزام مبدأ ميكافلي في تفسير الظواهر السياسية وأنظمة الحكم على أساس حسن الطالع لا يتوافق قليلا أو كثيرا مع مبادئ الضمير فضلا عن المبادئ الإسلامية في تقييم الأمور الأرضية والسماوية.
 فاذا كان الامبراطور بيرون الذي أنهك المسيحية، والحجاج الذي أرهق المسلمين، وهتلر الذي حاول قمع الانسانيةو...، إنما تمّ لهم ذلك بحسن طالعهم فما ذنب المسيحيين المنهكين والمسلمين المرهقين...؟.
لا يصمد ميكافلي المتزلف أمام ثورة الضمير البشري، ومبادؤه الوحشية ليس في قاموسها تفسير لدماء آلاف البشر التي اراقها بيرون والحجاج وهتلر و...، وكل ما عنده هو حسن طالع المجرمين ! وحسن الطالع هذا يبيح لروزفلت أو غيره من رؤوس الاستكبار أن يرمي بقنابله الذرية على ناكازاكي وهيروشيما...
وأيا كان الامر، فنحن لا نصدق بسهولة ارتقاء عبد الرحمن بن عوف بين ليلة وضحاها ليكون محلقا في سماء الارستقراطيين في المجتمع الإسلامي على اساس مبدأ ميكافلي ! .
ومن جهة اخرى لنا كل الحق في ان نتساءل .. ما هو السبب الذي جعل التاريخ الاسلامي يتناسى عبد الرحمن بن عوف ولا يفصح عن وجوده التاريخي إلا في أخطر المقاطع التاريخية؟
1- أليس غريبا أننا لا نجد ذكرا لعبد الرحمن إلا في حادثة السقيفة ثم يتناساه التاريخ ويظهر فجأة على مسرح الاحداث ليكون اول الداخلين على ابي بكر ليبارك خلافة عمر؟
2- ثم، أليس غريبا ان يتناساه التاريخ مرة اخرى ليظهر في حادثة الشورى وله مقاليد اخطر الامور الاسلامية؟ 
3- ثم يتناساه التاريخ ليظهر فجأة قبيل مقتل عثمان ثم يتناساه التاريخ حتى يومك هذا...
هذا الامر لم يلتفت اليه المؤرخون كثيرا ومن التفت اليه منهم لم يجرؤ على تفسيره؛ إذ هو -والإنصاف يقال- منطقة فراغ عويصة تحتاج الى إجابة.
أحسب ان ما يرسو عليه العقل السليم طبقا لما مر ان عبد الرحمن بن عوف شخصية قرشية لامعة ومؤثرة للغاية في تغيير مجرى الاحداث؛ إذ ليس اعتباطا تاريخيا ان لا تظهر هذه الشخصية على مسرح الاحداث إلا في اخطر المقاطع الحساسة من التاريخ!.
كما وليس اعتباطا تاريخيا ان تكون مواقفه في تلك المقاطع ذات أبعاد ايجابية لتوجهات الكتلة القرشية لا غير!.
وبالتالي فليس من الصدفة في شيء ان يغضب ابن عوف من هذه الوصية السرية قائلا: استعمله (يعني عثمان) علانية ويستعملني سرّا  .
من السذاجة بمكان أن نفترض أن التاريخ ساذج!!! وعليك أن تفهم الباقي.
=================== 
من كتاب الرسول المصطفى(صلى الله عليه وآله وسلم) ومقولة الرأي للباحث -باسم الحلي
المصدر: مجلة الروضة الحسينية /العدد49