سـفراء المهمات الصـعبة

• المرحوم السيد محمد علي الحلو

اهتم أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ببناء الواقع الإنساني، فكان تكامل الإنسان هو الأساس في مهمة الإمامة دون الانحياز إلى السعي للوصول إلى الحكم أو العمل للوصول إلى قيادات سياسية معينة، بل دأبوا عليهم السلام على تأهيل البناء الفردي، أي بنيوية المجتمع من خلال تعزيز بنية الفرد، وعلى هذا فلابد أن يكون الاهتمام بتربية الفرد وتكامله من أولويات برنامج الأئمة (عليهم السلام) في تنشيط حركة الفرد نحو الله أي نحو التكامل ولذا نجد أن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) عملوا على تركيز جهودهم ومتابعة توجهات أتباعهم وأنشطتهم ولابد من توفير الآلية الضامنة للتواصل بينهم وبين شيعتهم فكانت تشكيلة الوكلاء الذين تصدوا لضمان المواصلة بين الأئمة (عليهم السلام) وبين شيعتهم حينما دعتهم ظروف المطاردة والتنكيل من قبل النظام. إذن فان تهيئة نظام الوكالة والاهتمام بها من قبل أهل البيت (عليهم السلام) كان من أهم محاولاتهم لفك الحصار على حركتهم الشعبية.

تطورت منظومة الوكلاء إلى حركة السفراء الذين برز دورهم في عصر الغيبة الصغرى، وتوجه اهتمام القواعد العامة إليهم في وقت افتقدت هذه القواعد قائدها وإمامها وهي تحتاج إلى رعاية الإمام في ظرف عصيب قاهر يحشد فيه النظام الحاكم كل جهوده من أجل إقصاء كيان أهل البيت بشيعتهم المطاردين، ولابد أن يكون هذا الحشد من الأتباع تحت مظلة السفارة التي تجمعها لترابطها بالإمام، وبهذا كان السفراء الأربعة من أهم أنشطة وجهود الإمام المنتظر إبان الغيبة الصغرى.

وإذا كان الأمر كذلك فلابد أن نتعرف على ملامح هذه المرحلة الخطيرة من حياة السفراء.

الظرف العصيب:
إن المشكلة التي تواجه الأمة هو تغيير ثقافتها بما لا ينسجم ومبادئها وعقائدها، وأكثر ما يشعر بهذه المحنة هو القائد الذي يتحمل مسؤولية التغيير وإرجاع الأمة إلى أصالتها، والإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه) هو الراعي لهذا الإصلاح المنسجم مع مبادئ الأمة وهو الذي يستشعر بكل مرارة ما تمر به الأمة من انقلاٍب على المبدأ والفكر والعقيدة.
 ومن المؤكد أن الذي يتحمل مسؤولية هذا الانهيار الفكري والأخلاقي هي السلطة التي تدفع بهذا الاتجاه السلبي من الفكر والعقيدة، لذا تحمل عليه السلام هذه المسؤولية من التغيير وذلك من خلال توجيه الأمة للركون إلى المبدأ الحق والتنصل عن ثقافة السلطة، والسفير يتحمل هذا الجهد من بناء الإنسان وتكامله ورجوعه إلى أصالته الإسلامية، فالدولة العباسية مبتلاة بالانقسامات السياسية على نفسها، والخليفة العباسي مشغول بدفع المؤامرات  عن نفسه وفي ذات الوقت يعمل على مؤثرات السلطة من أجل الإطاحة بخصومه السياسيين فضًلا عن التنافسات السياسية في داخل البلاط حيث الطابع القومي هو المهيمن على حركة رجال البلاط، فالأتراك من جهة والفرس من جهة أخرى يتناحران فيما بينهما ثم هما يوقعان بالعنصر العربي الذي يهيمن على قرارات الخليفة.
ومن خلال هذا يأخذ المنحى الفكري توجهًا آخر فالثقافات الفارسية والتركية والرومية ُتلقي بظلالها على الهوية الثقافية للمجتمع الإسلامي، وتوجهات الانحراف تتصاعد وتأثرها بشكل مطرد، والخليفة لا يهمه الحفاظ على الأصالة الدينية فلعل مقتضى سياسته هو إدخال عناصر ثقافية للمجتمع لتهيمن على العقلية العامة وتبعد الأمة عن أصالتها وبالتالي الابتعاد عن قادتها الحقيقيين ـ أهل البيت(عليهم السلام) ـ  ومن هنا وجد السفراء ضرورة العمل الدءوب من أجل إنقاذ الأمة أو على الأقل الإبقاء على الحالة الإسلامية لأتباع أهل البيت وانشدادهم نحو الإمامة وهي في دورها الغائب فلابد من الارتباط بها بأدنى ارتباط يضمن معه ولاء الأمة لإمامها وعدم التنصل عن عقيدتها الحقة، فأتباع أهل البيت يعيشون حالة الفوضى السياسية التي يفتعلها النظام وهي من خلال ذلك سيصيبها الفوضى العقائدية التي تصدى لها مدعو الإمامة كجعفر عم الإمام الحجة الذي وجد المجال متاحا لهذا الادعاء الباطل، والدولة العباسية مرتاحة من هذه الدعوات التي تعمل على شق الصف الشيعي من خلال تراكم هذه الدعوات وتعددها.
ولابد للسفارة هنا أن تجهد في دفع غائلة الشبهات التي تتربص بالإتباع فضلاعن انشغال هذه القواعد في مشكلة هذه الدعوات المزيفة وعدم الاعتناء بمستقبلها وبنائها الذاتي، فالشخصية السوية لابد أن تتحمل مسؤوليتها وهي تخوض غمار التحديات ولابد لها أن تتكامل وترقى إلى مستوى المسؤولية الحقيقية، لذا كانت ضرورة السفارة التي تربط القواعد بإمامها الغائب ضرورة حتمية في مثل هذا الغليان العام، والظرف السياسي الهائج والاجتماعي المتشنج والفكري المضطرب.

السفراء.. مقوّمات النجاح وإمكانية القيادة
ولابد أن تكون لهذه المنظومة من السفراء مقوماتها الضامنة لنجاحها والمتحققة من خلال ممارستها لشؤون الأمة، وهذه المقومات تجتمع عند جميع السفراء ولا تخص أحدا دون غيره لاشتراكهم في مهمة واحدة وهدف مشترك.
إن أهم هذه المقومات التي ساهمت في إنجاح مهمة السفارة هي تميز شخصية السفير بالتقوى، حيث اتفق الجميع على شخصية السفير الجامعة لصفات الإحسان والمعرفة بالعبادة والورع، والحافظة لحدود الله تعالى ويجمع ذلك كله التقوى التي ُعرف بها هؤلاء السفراء.
كما أن الوصية التي وردت عن السابق للاحق تؤكد على أن هذه المنظومة متشكلة بوضع يربطها مباشرة بالإمام وهو الأمر الذي أكدته توقيعاته الشريفة في تعيين وكلائه وأن الأمر ليس بيد أحد، كما الادعاءات المتصاعدة من هنا وهناك في إحراز منصب السفارة من قبل البعض واجهة الإمام (عليه السلام) بعدة توقيعات تشدد على كذب هؤلاء ولعنهم والبراءة من أعمالهم، ولم تشفع الوكالة والعمل إلى جانب السفير لهؤلاء من شيء، فهذا (الشلمغاني) الذي عرف بعلمه وذاك (العبرتائي) المشهور عنه عبادته وابن هلال أو ابن بلال القريب إلى السفراء وغيرهم كثير لم يتأخر التوقيع الشريف في الصدور بالإعلان عن ضلالهم وزيف مدعياتهم، ولعل حادثة جعفر بن متيل (رضوان الله عليه) شاهد على مسألة النص والاختيار هي المحكمة في تعيين السفير حيث سأل جعفر بن متيل السفير الثاني محمد بن عثمان العمري عمن يخلفه – وكان الناس ينتظرون أن تكون الوصاية إلى جعفر بن متيل – فقال السفير الثاني أن الحسين بن روح هو من بعدي مشيرا إلى أمر الإمام (عليه السلام) بذلك فقام جعفر بن متيل وأخذ بيد الحسين بن روح وأجلسه مجلسه بعد أن كان في صدر المجلس وبذلك نفذ الشيعة وصية الإمام (عليه السلام) في سفرائه.
كما أن الإمام (عليه السلام) أكد ارتباط السفراء به وبآبائه من ذي قبل، فان الخط للتوقيعات المتلقاة من قبل الإمام والتي يقدمها السفير إلى الشيعة تثبت وحدة الخط مما جعل هذه الحالة الاعجازية من أهم المقومات الداعمة للسفراء الأربعة، وهذا الأمر يؤكد حقيقة الارتباط المباشر بالإمام (عليه السلام) وأن وحدة الخط وعدم تغييره منذ الإمام الهادي (عليه السلام) ومن بعده الإمام العسكري (عليه السلام) فان خط الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه) يتوحد مع خطوط آبائه الطاهرين وبذلك فقد كانت هذه الحالة من أهم دعائم مهمة السفارة ونجاحها وقبولها بين الأوساط.
ولابد من الإشارة إلى مقوم مهم كذلك وهو كون الإعجاز في عمل السفراء كان معروفا على مستوى لا يمكن إنكاره، فعلم ما في ضمائر الناس ومعرفة واطلاع السفير على نوايا جلسائه يعطي دفعا آخر في مصداقية السفارة، فضلا عن كون السفير ـ أي سفير ـ كان يعرف كل اللغات التي لم يطلع عليها من قبل، فالحسين بن روح تحدث باللغة الآبية ـ وهي لغة معروفة آنذاك ولعلها لغة بعض الشعوب الآسيوية ـ مع أنه لم يعرف قبل سفارته هذه اللغة فصار يتحدث بها مع أهلها لإثبات مصداقيته، وكذلك ما كان يخبره أصحاب الحقوق عن مقدار ما يحملونه قبل الاطلاع على أمتعتهم وأموالهم فضلا عما كان للحسين بن روح من أمر المرأة التي طلبت منه إثبات صدقه كونه سفيرا وهي تحمل له حقوقها، فأمرها أن تلقي هذه الحقوق في نهر دجلة وتأتيه فلما ألقتها ودخلت عليه وجدت الحقوق أمامه مما دعاها إلى التسليم بأمره والاعتقاد بدعواه.
إن السفارة لم تكن على مستوى نقل الرسائل من وإلى الإمام لقواعده الشعبية، بل تعدت ذلك ـ وان كانت هذه المهمة من المهام العظيمة التي يحرز بها الإنسان صدق السفير وارتباطه وقربه إلى الإمام ـ إلا أن السفارة تعدت حدود المراسلات إلى العمل لتكامل الإنسان وارتباطه بالحق -تعالى- من خلال ربطه بإمامه وهذه المهمة لا يحسنها أي أحد بل لابد أن تتوافر لدى أصحاب هذه المهمة قابليات وكفاءات تجعلهم جديرين بالمسؤولية وتحملها لذا فلابد من التعامل مع تاريخ السفارة على أنها مهمة الرقي والنضج وترشيد المجتمع الذي يخوف عسير من غيبة الإمام (عليه السلام) وابتعاد القيادة عن قواعدها مع خطورة الوضع السياسي وتفاقم الأزمات التي يفتعلها النظام على طول خط تاريخ الإمامة، وبذلك استطاع السفراء أن يخوضوا تجربة من أنجح التجارب التي أسسها أهل البيت لخلق الوعي والنضج الاجتماعي ولتجاوز أزمات النظام المفتعلة التي لا ُيراد منها إلا الإطاحة بالإسلام المحمدي الأصيل.

المصدر: مجلة الروضة الحسينية/ العدد61