تحدّيات الحوار بين الأجيال

صباح الطالقاني

بين جيل يستشعر المخاطر من خلال التجربة والنُضج والعادات والتقاليد ولا يريد أن يصيب الآخرين ما أصابه من هفوات خلال مسيرة طويلة من العمر، وبين جيل جديد بظروف وواقع ومتغيرات جديدة، يواجه مخاطر العولمة والتكنولوجيا الخارقة والغزو الثقافي الأجنبي وتيارات استلاب الهوية الأصيلة للمجتمع العربي، يدور حوار ساخن في كل ركن من أركان خارطة العرب الكبيرة.

ویتخذ هذا الحوار عدّة أوجه فمرةً يكون على شكل تعاطي مباشر مع مشاكل الشباب على مستوى الأسرة، ومرة أخرى يتخذ شكلاً جماعياً من خلال محاولات المؤسسات المختلفة الرامية الى توعية وتثقيف النشئ الجديد وتجذير القيم الأصيلة فيه، وتسليحه بالمبادئ والمفاهيم التي يريد منّا الله تعالى أن نتسلح بها في مواجهة الانحلال والفوضى وتراجع القيم الانسانية ومستوى الشعور بالمسؤولية تجاه النفس والمجتمع.

ومن هنا فنحن أمام تحدٍ كبير ومهم، فعلى أساس هذا الحوار ومخرجاته يتم تأسيس العلاقة المستقبلية بين الأجيال باعتبارها الصورة الواقعية لما سيكون عليه المستقبل من تقدم وازدهار، أو انكفاء وتراجع وتخلّف..

أستاذ علم النفس التربوي البرفيسور حيدر اليعقوبي، يشير الى اتساع الفجوة بين الواقع والطموح من الناحية النفسية فيقول" اليوم نلاحظ أن الفجوة كبيرة وقد اتسعت بين الأبناء أنفسهم أو بين الأبناء ووالديهم أو بالعكس.. حتى ضجّت الأخلاق بتدهورها والروابط النفسية والاجتماعية بتفككها، وخشي الآباء على مستقبل أبنائهم.. وتذمر الأبناء وصولاً الى مشاعر الهروب والانتحار.

إن الفحص النفسي الدقيق وراء ظاهرة (نحن وهُم) التي تتعلق بالطبيعة الأيديولوجية والتوجهات المعرفية والبناء النفسي لكل منهما، يجعلنا نتأمل كثيراً في تدهورها، ولكنَّ السؤال الأهم من ذلك مَن يتحمل الأولوية في إدارة خنق هذه الفجوة، هُم (الأبناء) أم نحن (الكبار)؟ لاشك ان الإجابة الأولية ستقع علينا (نحن).. ولكن هذا غير صحيح، فالإجابة النفسية الصحيحة هي العمل المشترك بين القطبين (هُم ونحن) وذلك من خلال استجابة (هُم) بعد التنشئة الصحية وإعادة التنشئة لـ (هُم).

ويؤكد د. اليعقوبي على" ان الآباء الذين يعانون من سلوكيات أبنائهم، لابد من التفكير بإعادة التنشئة من جديد وبالسرعة الممكنة، وعلى الآخرين الذين لم يكبر أبناؤهم بعد أن يستفيدوا من أخطاء مَن قبلهم، وأن يعرفوا أن تصويب التنشئة وإعادتها مسألة مهمة وحساسة في نفس الوقت ويجب التعامل بحذر في شأنها.

ويقدّم د. اليعقوبي نصائح نفسية مختصرة تمثّل السلوك الرئيسي للآباء أو لمن يريدون إعادة طريقة التنشئة لأبنائهم عبر الآتي:

1- توقف فوراً عن التذمّر.

2- إقرأ إبنك واحتياجاته المعقولة وغير المعقولة.

3- نفّذ من غير تردد كل احتياجاته المعقولة.

4- حاوره في كل ما يطرحه من توجهات غير معقولة واعمل على الإقناع بخطئها.

5- مَنّي ولدك بالمستقبل الذي يرغبه والذي ستقف أنت معه ليبلغه.

6- إنتظر مدة شهرين ستجده يميل اليك ويسترضيك، وهنا يمكن إعادة التنشئة من جديد.

أهمية شيوع ثقافة السؤال

وفي مرحلة الشباب تتفتّح وتستيقظ جميع الغرائز، فمن جهة تبرز لديهم الغرائز والميول المادية، ومن جهة أخرى تتفتح الميول والرغبات الروحية والمعنوية.

ومن هنا يرى الشيخ الدكتور عبدالله اليوسف انه" في مرحلة الشباب يتشكل ويتبلور وعي الإنسان وفكره في جميع الأمور، ومن أهمها: تبلور الوعي الديني، فعادة ما يكون عند الشباب اهتمام واسع وقوي لمعرفة القضايا الدينية، وفهم القيم الروحية والأخلاقية، واستيعابهم المعارف باختلاف أشكالها، وذلك نتيجة لارتفاع الفهم والإدراك في هذه المرحلة المهمة من حياة الإنسان.

ويضيف" من أجل بلورة الوعي الديني بصورة صحيحة عند الشباب ينبغي لهم قراءة أمهات الكتب الدينية، ومجالسة أهل العلم والرأي، وعمل حلقات لمناقشة القضايا بصورة جدّية، كما يفترض على العلماء أن يقدموا أجوبة مقنعة على كل الشبهات والردود التي توجّه ضد الإسلام، وأن يتم تقديم مفاهيم الدين وتعاليمه إلى الشباب بصورة عصرية بحيث يُقبل عليها، ويتفاعل معها، ويتأثر بها.

وينوّه د. اليوسف أن" من المهم للغاية اكتساب ثقافة السؤال، للوصول إلى المعارف والعلوم بشتى أشكالها، ومعرفة المفاهيم والأحكام الدينية، ويُعد أسلوب الأسئلة في القرآن أنموذجاً لصناعة خطاب ثقافي متميز ومتطور ومرتكز على الرؤية القرآنية، ووسيلة وقائية مهمة لمواجهة الغزو الثقافي الأجنبي، فجيل الشباب بحاجة لخطاب ثقافي متناغم مع ما وصل إليه من فكر ووعي وبصيرة، وهذا الخطاب الثقافي لا يمكن أن يكون مؤثراً إلا إذا احتوى على عمق في المضمون وتجديد في الأسلوب والأداء.

وعندما نتمعن في القرآن الكريم نجد أنه استخدم تقنيات متطورة في مخاطبة الناس حتى يقتنعوا بما يطرحه القرآن من عقائد وأفكار، ومن هذه التقنيات أسلوب السؤال والتساؤل.

ويوضح د. اليوسف" عندما نستعرض الآيات الكريمة التي تناولت الأسئلة نجدها مغايرة لما ألفناه في السؤال والجواب، حيث أنه معلوم بأن السؤال يقصد به فقط الجواب على مضمون السؤال، ولكن بلاغة القرآن وتفوقه البياني انتحت بالسؤال منحى الهدف والغاية والوسيلة والحجة والبرهان والدليل، فوجدنا أسلوب الأسئلة في القرآن يهدف إلى: التنبيه والتحذير والإعداد للإجابة، وإلى التوبيخ والسخرية والاعتراف وإلزام الحجة ومراعاة المسئول ويشير إلى الجزاء والحساب والطلب، والبحث عن البراءة، والتأكيد على الإيمان وعلى قدرة الله والتنبيه إلى المحظور والإعلام والتهديد والوصول إلى اليقين والاطمئنان والإشارة إلى سؤال المختص، والاستنكار والتحسّر، وإلى المعرفة والاعتراف والمحادثة والمسامرة وإلى تعجّل الأمور والمكابرة ومراعاة الإجابة.

وقد ورد أسلوب السؤال والتساؤل والإجابة في العديد من السور الشريفة، كقوله تعالى:

1-{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجّ}

2-{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ..}

3-{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا..}

4-{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ.. }

5-{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ..}

6-{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ..}

8-{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي..}

فضلاً عن عشرات الأمثلة الأخرى التي تجعل من هذا الأسلوب محفّزاً مهماً جداً للتساؤل، في استقطاب شريحة الشباب، الذين يكثرون من التساؤلات حول كل الأمور، فاستخدام الخطاب الثقافي الإسلامي المعاصر لهذا الأسلوب القرآني مؤثر جداً في الإقناع والتفاعل، والوصول الى النتيجة المرجوة في نشوء علاقة منسجمة وجدّية وحميمية بين الأجيال وبالخصوص بين الشباب والكبار.

أثر العادات والتقاليد

اختصاصي الادب العربي حسن هادي مجيد، أدلى برأيه المتعلق بالجانب الاجتماعي للحوار بين الاجيال قائلاً" عرف الحوار على أنه مناقشة بين طرفين أو أكثر، وذلك بقصد تصحيح الكلام وإظهار الحجة واثبات الحق ودفع الشبهات، والحديث عن الحوار يعني العلاقة بين الذات والآخر سياسياً واجتماعياً وحضارياً وثقافياً، وهذه العلاقة قائمة في كثير من الأحيان على أساس أن الذات هي المكون الأساسي في حركة الفكر والثقافة بشكل عام، وهي على الصواب دوما، والآخر هو مجرد ظل تابع  لها بل هو فرع  منها ولا يستطيع الخروج عنها، وهذا هو الخطأ الذي يبقي هذه العلاقة جدلية على مر العصور والامصار، وقد تكون رؤية الأنا على حساب الآخر، أو إلغاء رؤية الآخر لصالح مصالحها أو عاداتها وتقاليدها، وبهذا تكون العلاقة بينهما قائمة على ثنائية التضاد والمصالح والتقاليد الاجتماعية التي تحكمها.

ويضيف مجيد" عادة ما ينظر الجيل الأسبق إلى نفسه على أنه الأكمل والأصوب والأفضل، ومَن يأتي بعده هو الناقص والخاطئ والأسوأ، لأنه خرج عن تقاليده وعاداته، وهذه النظرة الخاطئة هي التي شكلت بؤرة الصراع الأولى بين الأجيال.

وهنا، السؤال الذي يطرح نفسه، كيف يمكن تحويل هذا الصراع بين الأجيال من صراع يعتمد القوة والتقاطع إلى حوار يعتمد المنطق والثقافة والاخلاق؟ والجواب يكون من خلال حكمة أخلاقية وتربوية مهمة وهي ((لا تكرهوا أولادكم على آثاركم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم))، بمعنى ان هناك حدودا للإكراه في التربية وينبغي عدم تجاوزها، بل هناك مقدمات وأساليب تربوية يجب أن تسبق الإكراه العقلاني والمقبول، وليس ما يقوم به بعض الآباء والأمهات والمعلمين من استخدام العنف المباشر في التربية أو التعليم أو كلاهما، والذي يكون في الغالب تنفيسا عن غضبهم دون أن تكون له أية آثار تربوية أو تعليمية وإنما يقود لنتائج عكسية، تؤثر على تقدم المجتمع وتطوره.

ويختم مجيد" بالمحصلة، فإنه يجب اعتماد الحوار والتفاهم بين الاجيال وتقسيم الحقوق والواجبات وفقاً لاختلاف الزمان وتطوراته، أي ان حقوق أبنائك في زمانهم تختلف عن حقوقك في الزمن الذي كنت تعيشه، لأن الإنسان كائن متغير في العادات والتقاليد، وعليه فالإنسان لاينبغي له أن يُلزم أبناءه بآداب زمانه فقط، بل يحاول أن يستقطبهم من خلال الحوار والتفاهم، وعدم فرض الهيمنة والتسلط، للوصول الى النتائج التي تخدم تطور المجتمع وتقدمه.