العراق مرآة الفكر والحكمة

مظهر محمد صالح

عندما تتعاظم المصائب يمحو بعضها بعضاً وتحل بك سعادة جنونية غريبة المذاق، وتستطيع ان تضحك من قلب لم يعد يعرف الخوف، فاذا كانت هذه هي حكمة بلاد النيل كما قالها الاديب الراحل نجيب محفوظ، فلابد من ان نبحث عن مرايا الحكمة في ذاكرة تتفاعل على ارض بلاد الرافدين لتعكس الحاضر بمفارقاته وتضع خطاها على مرتسم يقظة تجده بديلاً آخر في رسم مسارات الحياة وآمالها العظيمة المستقبلية وهي تدوس على جراحاتها.

فالحكمة هي تجسيد لهيئة القوة العقلية العلمية المتوسطة بين الغريزة التي هي إفراط هذه القوة، والبلادة التي هي تفريطها. وتجيء على ثلاثة معان: الأول الإيجاد، والثاني العلم. والثالث الأفعال .

لذا أضحى الكل في بلادي يبحث عن الحكمة لبلوغ مناخ متجانس من السكينة والرفاهية في جدل الحرية وبودقتها التي لم تبتعد عن مناخات الاجتماع السياسي واجتماعيات علم الاقتصاد .

ففي ثلاثية فكرية تصدت لمفاهيم الحكمة وانصرفت لثلاث مفردات وهي: النصف والمقادير والسياج، اثار المفكر حسين العادلي وبصوت عالي وهو يحاكي في ثُلاثيته كينونة الحياة وتناقضاتها، اذ يجد في النصف: ان نصف الحكمة (التفكر) والنصف الثاني (التجاهل)، كما يرى في (المقدار) ان الوعي بقدر (الإتعاظ)، وليس بقدر (الإطلاع)، والسعادة بقدر (الطمأنينة)، وليس بقدر (المقارنة). وأخيراً جاء الى فكرة السياج فوجد: ان سور الشجاعة (الحكمة) وبين الشجاعة والتهور (حُسن) التقدير.

وبهذا قادتني موجبات الحياة الى التحري عن تفاعلاتها وتلمس تناقضاتها لاضع بصمتي مع ثلاثية الحكمة في ارض الرافدين كي اتصدى بنفسي (للنصف، والمقادير، والاسوار) ما يجعلني اطرق روافع الحياة والتحري عن مجاهيلها وثوابتها مدركا بنفسي عن ماذا اريد بلوغه :

(فالنصف) في نظري هو كلمة تدق مسمارها في جدران الضمير البشري الحي ولاسيما عندما يبلغ الاغتراب اوج صورته وينفصل الفرد عن مجتمعه ويصبح ضحية لسيادة الطغيان والتسلط وانعدم العدالة وضياع الحق وفقدان الموازين. هنا تضحى الانسانية مجرد شبح متحرك لا قيمة وجودية له. انه اقرب الى الاغتراب الاجتماعيSocial alienation  وهو اخطر حالات الضياع البشري في المجتمعات التي تفتقر الى دينامكيات اللحاق بالمدنية باحثة عن مستقبل متسع الافق في السعادة ولكنها مازالت تخلوا تماما من شي اسمه الحرية.

اما (المقادير) فتعني تحريك وتعبئة الكميات والابعاد والاوزان والزمن والتي جميعها تمتزج لبلوغ التكوين  الامثل. واذا ما اختلت المقادير اختل توازن النماء والحياة وحركة الكون كله. فحتى الطعام واعداده يتوقف مذاقه الامثل على المقادير وتعني دقة واتساق المواد فيما بينها للحصول على طعام طيب المذاق.  

بعد نشوء الكون بعد الانفجار العظيم  Big Bangظلت الحياة والتصرفات البشرية مُثلى طالما اعتمدت المقادير، ويوم تنفقد المقادير تنفلت الامور من عقالها الى المجهول واللاعقلانية والدمار والحروب والاخلال بالطبيعة والانفلات من الميول الفطرية البشرية.

وأخيراً، هل هناك أسيجة ام قيود؟

الحرية بلا (اسوار) هي مجرد (قيود constraints) تُفقد الفرد متسع حمايته في التمتع بالامثلية في ممارسة الحرية دون اختراق من الابعاد الثلاثة والزمن وبخلاف ذلك ستعني في نهاية المطاف انقلاب على الحرية الشخصية نفسها. ولكي تمارس الحريات الشخصية دون اختراق لا بد من (اسوار حامية) لحريات افراد المجتمع دون اختزال توُلده (قيود) يفرضها البعض على البعض بما فيها حالات الفقدان في الحماية الرقمية واختراقاتها في العصر  التكنولوجي الراهن.

(فالأسوار) هي آصرة الحريات وهي المحرمات او التابوهات Taboos لمجتمع الحريات واختراقها يعني اعتداء وتلوّن في نوع الحرية وفقدان نقاءها والسبيل الى اشاعة التوحش وممارسة العنف وفقدان العدالة وغياب الحق في المعتقد والتملك وفي التصرفات السياسية، اي السماح باستعادة قسرية (للضرورات necessities.).

فكلما اتسعت الاسيجة الحامية للحريات قلّت القيود القامعة لها وغابت (الضرورات ). فبين (السياج) و (القيد) مسافة تمثل حالة الابتعاد بين نقطتين شديدتي التطرف في بلوغ اقصى درجات الحرية degree of freedom  في مجتمع يتطلع الى الامثلية.

وبهذا، ستظل الاسيجة بمثابة اسس محسوبة ومعرّفة في الحسابات الانسانية لتعبّر عن مسالك مستقلة لمجتمع حر يتمتع بديناميكية عالية في التعاطي الانساني المستقر دون اختراقات مستفزة تستبدل (أسيجة) الحرية (بقيود) الاضطراب والعودة بضرورات ما قبل الحرية وفقدان درجاتها .

ختاماً، ستبقى كتابات وادي الرافدين تدقّ مسمارها في جدران الضمير البشري الحي ولاسيما عند التصدي لمشكلات الاغتراب في أوج صوره ومخاوف ان ينفصل الفرد عن مجتمعه في تجمعات رقمية هجينة التكوين ويصبح الانسان ضحية لسيادة الطغيان والتسلط وانعدام العدالة وضياع الحق وفقدان الموازين. هنا تضحى الانسانية مجرد شبح متحرك لا قيمة وجودية له. انها حالة اقرب الى الاغتراب الاجتماعي.