نهوض الإمام الحسين (عليه السلام) في زمن يزيد تحديـــدا

الشيخ: د. محمد كنعان

سؤال طالما دار في أذهان المؤرخين والدارسين هو: لمَ اختار الحسين عليه السلام زمن يزيد للنهضة والثورة دون زمن معاوية طالما أن النظام الحاكم هو نفسه والأسباب هي نفسها؟

 وكنّا قد أسلفنا أن الإمام -عليه السلام- في أحد كتبه إلى معاوية أكّد بالأمثلة والشواهد نقض معاوية للعهد والميثاق واستحلاله ما حرّم الله ، كالوقوف في مواجهة خطّ أهل البيت عليهم السلام مما جعله فاقداً للشرعية مجدداً ونقصد :أنه أعاد للأذهان  ما حاول معاوية تعميتَه وهو أنه لم يكن -يوما- ذا شرعيّة في حركته السياسية أو على مستوى سلطته التنفيذيّة.

ولو خرج الحسين عليه السلام في زمانه لاستشهد كما حصل بعد ذلك لكن لم يكن لاستشهاده ذلك الدوي لعدة أسباب منها أن معاوية كان حريصاً على إسباغ لبوس ديني شرعي على تصرفاته ولو من قبيل شراء الوضّاعين للأحاديث أو استمالة وعاظ السلاطين أو تجميع عارضي البضائع الدينية لإضفاء تلك المسحة التي ترضي الأكثرية من البسطاء فضلاً عن تطويقهم من نواحٍ أخرى بالترهيب تارة والترغيب أخرى.

فلو قام الحسين عليه السلام لوجد معاوية وأعوانه ما يجيبون به الناس من قبيل اتهامه بأنه كان طالب سلطة أو خارجاً عن القانون ولما كان لقتله آنذاك أي استنكار في أوساط المجتمعات الإسلامية لأن معاوية بالتحديد كان يملك أكثر من وسيلة تعمية على الأهداف الأساسية التي يضحي من أجلها الحسين عليه السلام. ومن جهة أخرى فإن عهداً وميثاقاً قد وقع بين الحسن عليه السلام ومعاوية، وصحيح أن معاوية لم يفِ بأي بند من بنود الصلح لكن الناس بطبيعتها التي تميل الدعة والمهادنة كانت سترى أن الحسين قد تمرد بشكل غير مشروع فقد نقل السيوطي في كتابه تاريخ الخلفاء والشيخ المفيد في الإرشاد أنه لما مات الحسن بن علي عليه السلام تحركت الشيعة بالعراق وكتبوا إلى الحسين في خلع معاوية والبيعة له فامتنع عليهم وذكر أن بينه وبين معاوية عهداً وعقداً ولا يجوز له نقضه حتى تمضي المدة فإذا مات معاوية نظر في ذلك.

 إذن فإن أي قيام لن يكون مضمون النتائج أقصد بالنتائج هنا غير المكسب العسكري قطعاً بل ما حققه الحسين عليه السلام بعد ذلك، وقد أطبقت كلمة المؤرخين على أن صبر الحسين أثمر في نهاية المطاف إذ ما لبث معاوية أن هلك وكان هناك انقلاب في أفكار الناس تجاه الحكم، ولعل فيما قاله طه حسين في هذا الصدد كفاية حيث أنقل نصّه بهذا الخصوص: ومات معاوية حين مات وكثير من الناس وعامة أهل العراق بنوع خاص يرون بُغض بني أمية وحب أهل البيت لأنفسهم ديناً.

ويحسن هنا أن نشير إلى وضوح الرؤية بشكل ساطع فلم يعط الحسين عليه السلام أي شرعية للبيعة التي أخذها معاوية لولده يزيد في حياته حتى بلغ به الأمر أن يحرم بني هاشم من أُعطياتهم حتى يبايع الحسين ومع ذلك لم يفعل بل فنّد للتاريخ مزايا شخصية يزيد في كتابه لمعاوية الذي يقول فيه: وفهمت ما ذكرت عن يزيد في اكتماله وسياسته لأمة محمد، تريد أن توهم الناس في يزيد كأنك تصف محجوباً أو تنعت غائباً أو تخبر عما كان مما احتويته بعلم خاص. وقد دل يزيد من نفسه على موضع رأيه، فخذ ليزيد فيما أخذ فيه من استقرائه الكلاب المهارشة عند التهارش، والحمام السبق لأترابهن والقيان ذوات المعازف وضرب الملاهي تجده باصراً ودع عنك ما تحاول، فما أغناك أن تلقي الله من وزر هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه فوالله ما برحت تقدح باطلاً في جور، وحنقاً في ظلم، حتى ملأت الأسقية وما بينك وبين الموت إلا غمضة ثم ما لبث عليه السلام أن جاهر برأيه عندما لم يكن بد من المجاهرة فقد كتب معاوية إلى الوليد بن عتبة واليه على المدينة يقول له: أما بعد فخذ حسيناً وعبد الله بن عمر وابن الزبير بالبيعة أخذاً ليس فيه رخصة حتى يبايعوا والسلام. فدعا الوليد الحسين عليه السلام فأجابه قائلاً: مثلي لا يبايع سراً ولا يجتزئ بها مني سراً فإذا خرجت للناس ودعوتهم للبيعة ودعوتنا معهم كان الأمر واحداً  فانبرى مروان بن الحكم قائلاً للوليد: لئن فارقك الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً حتى تكثر القتلى بينكم وبينه ولكن احبسه فإن بايع وإلا فاضرب عنقه، فصاح بالحسين عليه السلام: ويلي عليك يا بن الزرقاء، أنت تأمر بضرب عنقي كذبت ولؤمت ثم أقبل على الوليد وأطلق شرارة مشروعه التاريخي بقوله: أيها الأمير إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة بنا فتح الله وبنا يختم، ويزيد فاسق فاجر شارب الخمر قاتل النفس المحترمة معلن بالفسق والفجور ومثلي لا يبايع مثله.

لقد أوضح عليه السلام الخط الدقيق الفاصل بين أن ترضخ الأمة للحكم الظالم مع علمها بأنه ظالم وبين أن ترضخ وهي ترى أنه حكم شرعي لا يجوز الانقضاض عليه.

أيها الأخوة إن أدنى تبصّر في مواقف الحسين عليه السلام من خلال تسلسلها يدرك عميق ما كان يرمي الله لذلك كله آثر أن تتخمر الظروف ويتوالى فشل الجهاز الحاكم ويكثر الناقمون عليه، وكانت الفرصة التاريخية التي تمثلت بشخص يزيد على رأس السلطة مع ما كانت تستبطنه شخصيته من تهوّر وسطحية وبعد عن الحذر والحيطة والتروي، وهو ما ظهر جلياً في معالجته الفاضحة لنهضة الحسين عليه السلام وفي استباحته المدينة المنورة بعد ذلك وفي محاصرته مكة وضرب الكعبة المشرفة بالمجانيق. هذا هو الحاكم الذي تنمو في فترة حكمه بذرة الإصلاح التي دسها الولي ابن الأولياء أبو عبد الله الحسين في تراب وجدان الأمة وعميق دفائن تراثها.