استشراق العصور الوسطى.. جذور العقدة

د. هاشم الموسوي

اعتاد علماء التاريخ أن يطلقوا على الفترة التاريخية الممتدة من القرن الخامس إلى القرن الخامس عشر الميلادي مسمى (العصور الوسطى). وهي فترة ابتدأت في أعقاب سقوط الإمبراطورية الرومانية في عام 476م وقيام الدولة البيزنطية الجديدة وامتدادا بعد ذلك حتى دخول الانسانية العصر الحديث المبكر.

وتتراوح العصور الوسطى من نهاية فترة حكم الإمبراطورية الرومانية الغربية حوالي القرن الخامس الميلادي حتي قيام الدول الملكية وبداية الكشوفات الجغرافية الاوروبية وعودة النزعة الإنسانية وحركة الإصلاح الديني البروتوستانتي بداية من عام1517م، أي ما مقداره حدود العشرة قرون، ويدخل ضمن فترة القرون الوسطى ظهور البعثة النبوية المباركة وقيام الاسلام كحضارة منافسة داعية إلى الوحدانية والتكامل الإنساني إبان القرن السابع الميلادي، وما تلى ذلك من أحداث تاريخية وحضارية أدت الى دخول أوروبا في مرحلة بداية الحداثة التي تلتها مرحلة الثورة الصناعية المرتبطة بالاستعمار، ومحاولاته في بسط الهيمنة الأوربية على الأمم الأخرى وتغيير قناعاتها وثقافاتها على وفق الرؤية الاوربية، ولو باستخدام العنف والقتل وحرق المدن بكاملها على السكان الآمنين.

ومع انتشار الاسلام كقوة جديدة يحسب لها ألف حساب بعد التمدد السريع الذي شهدته منطقة العالم القديم (آسيا وأوربا وأفريقيا) وفي ظرف تاريخي يسير وقصير نسبياً، فقد قصَد مجموعة من الرهبان بلاد الأندلس أيام مجدها، وتعلّموا في مدارسها ومعاهدها، وترجَموا القرآن الكريم وبعض الكتب العلمية إلى لغاتهم الأصلية، بعد ان درسوا على علماء مسلمين مختلفَ العلوم، وخاصة الفلسفة والطب والرياضيات، ومن أوائل هؤلاء الرهبان الذين حفظ التاريخ في سجلاته أسمائهم: يوحنا الدمشقي 750 م، والراهب الفرنسي (جربرت)، الذي أصبَح فيما بعد بابا لكنيسة روما عام 900م، و(بطرس المبجل 1156م) و"جيراردو دا كريمونا عام 1187م، وغيرهم.  

ومع مرور الأيام عرف الأوربيون أهمية الشرق المسلم وضرورة الاحاطة بمعارفه وعلومه لمجابهته أو إيقاف زحفه، وقد سجلت العصور الوسطى البداية الحقيقية لقيمة هذه المعرفة، مع  أن الدلائل - خاصة الغربيين - تشير إلى  أن الاستشراق اللاهوتي الرسمي قد بدأ وجوده حين صدور قرار مجمع (فيينا الكنسي)عام 1312م، وذلك بإنشاء عدد من كراسي الأستاذية في العربية والعبرية في جامعات باريس، وأكسفورد، وبولونيا، وأفينيون وغيرها من المدن والحواضر الأوربية لمعرفة هذا الدين الجديد وتفكيك أفكار أصحابه والوقوف على أسرار القوة ومعرفة الكيفية التي تستمد منها هذه القوة.

ومع ضعف الدولة العربية الاسلامية وانقسامها إلى إمارات ايام بنو العباس تحفز الروم البيزنطيين الذين رفض ملكهم (هرقل) بالأمس رسالة الرسول الأكرم وهو يدعوه إلى وحدانية الله، واستعدوا بمباركة (الرهبان المستشرقين) نحو الثأر والانتقام واستعادة المجد الشرقي، لاسيما والعرش البيزنطي قد اعتلته واحدة من أقوى الأسر في تاريخ الروم وهي الأسرة المقدونية، التي نفخت روح جديدة في الدولة البيزنطية، فبدأ الأمر مع تولي قسطنطين الرابع (913-919م) ثالث الأباطرة المقدونيين الحكم الرومي، ثم بدأ حملته على شرق الأناضول والاستيلاء على مدنه الإسلامية وإرغام أخرى على دفع إتاوة له، ثم التوجه نحو الشام والاستيلاء على مدن وقلاع وحصون الدولة الحمدانية في حلب ودمشق والرقة.

وقد ساهم الرهبان الذين امتهنوا الاستشراق بوصفه وظيفة للسيطرة والهيمنة في بعث الروح الصليبية وإحيائها في أنحاء أوروبا وصارت الكنيسة تتطلع لمشروعها الكبير في بسط نفوذها على المشرق ولو اقتضى الأمر الإبادة الجماعية لأهله وسكانه ومحو ثقافتهم التي توارثوها عبر القرون، وفي فرنسا عام 1095م انعقد مجمع (كليرمونت) الذي دعا فيه البابا (أوربان الثاني) إلى شن الحملات الصليبية على المشرق الإسلامي و(تحرير مهد المسيح) فانتشرت الدعاية لهذا الأمر بمباركة الرهبان المستشرقون، فتحركت حملة العامة والدهماء المعروفة أيضا بالحملة الشعبية التي جمعت غوغاء وشذاذ البلاد الأوروبية  بقيادة الراهب (بطرس الناسك) حيث وصل إلى القسطنطينية بعد أن خرب  ونهب  الكثير في الطريق انطلاقا من الحق الذي شرعه له مستشرقوا العصور الوسطى وقساوستهم.

ولم تختلف حروب الابادة والقتل والتشريد تحت قوة السلاح في الشرق الاسلامي عنها في الغرب، فقد كان لسقوط غرناطة وانتهاء الحكم الإسلامي في الأندلس فاتحةً لعصر جديد من العلاقات بين الشرق والغرب، قائم على القوة والترهيب ومحاولات الهيمنة تحت حجج واهية، حبكها الرهبان في ليلة حالكة، وقد فتح هذا العصر الباب على مصراعيه للصليبيين الأيبيريين من (الاسبان والبرتغال) ليفتكوا بالمسلمين المسالمين أينما وجدوهم، وليبدأ الغزو والسيطرة لأوروبا المسيحية على بقاع العالم تحت غطاء استشراقي كنسي استمر في ادامة عدوانه بعد بزوغ عصر النهضة وتطور الاسلحة والمعدات على العالم الإسلامي، فيما عُرف بعد ذلك بالاستعمار الجغرافي العسكري.

وباختصار شديد فإن فترة العصور الوسطى ولا سيما القرون الأخيرة منها أسهمت في خلق نظرة مريبة للشرق الإسلامي وبالإضافة الى ما تركته الحروب الصليبية الغازية من سجلات حافلة بالكراهية والعدوانية والازدراء لكل ما هو شرقي (اسلامي) فهي قد ساعدت -في الوقت نفسه- على تشكيل الهوية الأوربية التي ستظل هوية ذات علاقة شائكة مع كل ما هو شرقي أصيل، وما كان لهذه الهوية أن تتشكل لولا التدخل الكبير الذي قام به الاستشراق القروسطي في صياغة هذه الهوية وتحديد أبعادها وملامحها.