د. لان كيث هاوارد: التاريخ الحقيقي يُظهر الاهميّة الكونيّة للأحداث وليس نتائجها السياسية

د. لان كيث هاوارد/ بريطانيا

- يحاول التاريخ الحقيقي إظهار الأهمية الكونيّة للأحداث، وليس نتائجها السياسية الضيقة الفورية

- في حساب الرحلة المأساوية واستشهاد الإمام الحسين، هناك دروس في جميع الفضائل الأخلاقية، ولعل أكثر ما يضربنا بقوة، هو قصورنا مقارنة بالتضحية الهائلة التي قدّمها الإمام الحسين نيابة عن البشرية

يجادل طلاب ما يسمى بالمنهج التاريخي أنه من حيث التاريخ المباشر لم يتم تحقيق أي شيء نتيجة للأحداث في "عاشوراء" أي محرم. يقولون أنها كانت مأساة، لكن تأثيرها العام على الأحداث السياسية في تلك الفترة كان ضئيلاً. هذا هو استنتاجهم.

وعندما يُسألون لماذا تخصص كتب التاريخ الإسلامية التي كتبها العلماء منذ قرون مساحة أكبر، وصفحات وكلمات أكثر لهذا الحدث دوناً عن أي حدث آخر في تاريخ الإسلام؟ ولماذا هناك المزيد من الكتب المخصصة لهذا الحدث في التاريخ الإسلامي أكثر من أي حدث آخر؟ يكون جوابهم التجاهل ويغمغمون في شيء عن التأثير الشيعي على كتابة التاريخ.

ومع ذلك، فإن العديد من الكُتاب ليسوا من الشيعة ومن بينهم المؤرخ الإسلامي الطبري الشهير الذي خصص ما يقرب من مائتي صفحة لواقعة الطف.

الحقيقة هي أن هؤلاء العلماء الصغار بانتقاداتهم المغرضة لا يهتمون إلا بالتفاصيل الضيقة للتاريخ السياسي. إنهم لا يدركون الطبيعة الكونية لاستشهاد الإمام الحسين. بالنسبة لهم، التاريخ هو الدراسة المقيدة للسبب والنتيجة المباشرة في التطورات السياسية. لكن التاريخ الحقيقي يتعلق بشيء أكثر أهمية من ذلك. يتعلق التاريخ الحقيقي بعلاقة الرجال بالله، وكيف تؤثر هذه العلاقة على علاقات الرجال مع بعضهم البعض، يحاول التاريخ الحقيقي إظهار الأهمية الكونية للأحداث، وليس نتائجها السياسية الضيقة الفورية.

مأساة كربلاء واستشهاد الإمام الحسين، هي واحدة من تلك الأحداث ذات الأهمية الكونية. لا تتعلق دروسها فقط بمجموعة واحدة من الرجال وعلاقتهم بالعالم، ولكن لكل البشرية. إنه نموذج أخلاقي. إنه يعلّم التضحية ومعارضة الظلم، ويمثل سلامة الهدف وحب الأسرة واللطف والشجاعة. في الواقع، في حساب الرحلة المأساوية واستشهاد الإمام الحسين، هناك دروس في جميع الفضائل الأخلاقية. ولعل أكثر ما يضربنا بقوة، هو قصورنا مقارنة بالتضحية الهائلة التي قدّمها الإمام الحسين نيابة عن البشرية.

 سمح الحسين لنفسه طواعية أن يكون ضحية، سعيًا لتحقيق إرادة الله. قبل ما يقرب من ألف و أربعمائة عام، أعدّ الإمام نفسه للموت. قام بمسح جسمه في ماء ممزوج بالمِسك، غسل نفسه قبل أن يكون جسده جثة، استعدادًا لدخوله الفوري إلى الجنة. رموز وفاته كثيرة والمعاناة مروّعة.

 وواحدًا تلو الآخر، ذهب أتباعه إلى موتهم، حيث أن أقرباءه قتلوا جميعاً؛ حتى ابنه الصغير ذُبح بين ذراعيه.

ومع ذلك، لم يكن الإمام الحسين مجرد ضحية، بل كان أيضًا نموذجًا للشجاعة والثبات. خاض معركة شجاعة وشرسة ضد الكثير. كانت هذه هي قوته، وكان ذلك هالة شخصهِ وبأي حال من الأحوال كانت الطريقة الوحيدة التي يمكن أن يقتله أعداؤه بها هي أن تقوم مجموعة كاملة منهم بمهاجمته في نفس الوقت وطعنه معًا. إذلال الموت كان كاملاً. إن انتقام هذا العمل وشرره من قبل الرجال يتضح من حقيقة أن ثيابه ممزقة من جسده ثم تم سحقه بسنابك الخيول.

 

الدرس واضح لنا جميعاً، إنه يُظهر مديات الشر البشري. حيث يمثل الإمام الحسين كل الإنسانية المعذبة. في ذلك الموت، في تلك الضربات على جسده، في دوس الخيول فوقه، الإمام الحسين هو نموذج جميع الوفيات المظلومة والمعبّرة عن معاناة جميع البشر، كما أن لديه درسًا لتعليم الرجال الأكثر حظًا، وأن العالم مكان انتقالي، والنجاح الدنيوي ليس غاية في حد ذاته، ويجب على الرجال أن يكونوا دائمًا على دراية بالمعاناة التي مرّ بها الإمام الحسين. من خلال وعيهم بهذا سيتعلمون كيفية التعامل مع النجاح الدنيوي بتواضع.

بالمعنى الحقيقي للتاريخ الكوني، استشهاد الإمام الحسين انتصار عظيم، انتصار عجيب.

فمَن يعرف بإسم يزيد اليوم ما عدا أنه كان مسؤولاً عن استشهاد الإمام الحسين؟ وإلا فإنه مجرد واحد آخر من آلاف الطغاة والمتسلطين الذين أساءوا استخدام سلطتهم، كان موت الإمام النقي  نموذج بشري للخير والشجاعة، وفي الطرف المقابل يزيد النموذج الإنساني للظلم والشر.

إن انتصار الإمام الحسين يكمن في حقيقة أن إلهامه دفع الرجال إلى الحزن عليه على مر القرون، لقد حفّز النور النقي للإنسانية المقيَّدة في الإمام الشيعة جيلاً بعد جيل، وبقوا يعانون من مشقّة لا تنتهي، للحفاظ على ذاكرتهم حيةً.

البدايات الأولى للمجلس كانت تكريماً لاستشهاد الإمام الحسين من قبل عائلته وأقربائه، وفي وقت قريب تطوّرت تجمّعات الحزن هذه خارج الأسرة لتشمل الآخرين.

ولم يمض وقت طويل بعد واقعة الطف حتى كان هناك مجلس التوّابين الكوفيين، عندما اجتمعوا عند قبر الحسين للرثاء، والحزن، والاستعداد للموت في المعركة التي ستأتي، لمحاولة، بطريقة ما، أن يجعلوا أنفسهم جديرين بالتضحية التي قدّمها الإمام الحسين لهم وللبشرية جمعاء.

لقد شعرت جميع الأنظمة الاستبدادية بالتهديد من هذه المجالس، على مر القرون حاولوا منعهم. في وقت من الأوقات حُرِق حتى موقع قبر الإمام الحسين في كربلاء.

خاف المستبدّون من الحزن والندب على الإمام الحسين لأن الناس في ذلك الحزن والرثاء يتذكرون صلاح وعدالة ولطف وشجاعة الإمام الشهيد.

لم تكن هذه الصفات التي كانت الحكومات الاستبدادية تتمنى أن يفكر فيها الناس، وكان همّها الرشوة والفساد والمحسوبية والقوة العارمة. لقد رأوا التهديد لعالمهم، لقيمهم، لموقفهم. فسعَت تلك الحكومات إلى قمع ذكرى الإمام الحسين. ومع ذلك، كانت هذه هي قوة ونفوذ ومجد تلك الذاكرة، بحيث لم يتمكنوا من إزالتها من قلوب الرجال، ومن شيعة الإمام الحسين.

إن انتصار الإمام الشهيد جعل الشيعة يرفعون شعاراً هو إحياء ذكرى عاشوراء في كل عام، وفي جميع أنحاء العالم، ليجتمع المؤمنون معًا لتذكّر الإمام.

*دكتور لان كيث هاوارد/ باحث في الدراسات الإسلامية، وأحد العلماء الغربيين القلائل الذين كرّسوا أنفسهم لدراسة الإسلام الشيعي، قام بترجمة عدد من النصوص الشيعية الهامة وكتب سلسلة من المقالات حول الإسلام الشيعي، ألقى محاضرات عليا في جامعة ادنبره حيث درس اللغة العربية والدراسات الإسلامية.