الاسلام الآسيوي والافريقي مسلموا تايلند ..القبض على الجمر في عالم متغيّر-

ناصر الخزاعي

لم ينتشر الاسلام كل هذا الانتشار المدوي في أصقاع المعمورة لو لم يكن دينا متكاملا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه بفضل كتابه الثابت المحفوظ من الزلل والخطأ وبتعاليم نبيه العظيم والأئمة الأطهار من عترته المختارة، ولذلك لم يجد المبشرون المسلمون الأوائل الصعوبات الكبيرة في إقناع الناس خارج الديار الإسلامية الأصلية للدخول في هذا الدين لما يشتمل عليه هذا الدين من تعاليم واشتراطات هي أقرب إلى الفطرة الإنسانية السليمة وإلى معطيات الاستدلال العقلي لمن هيأ الله له قدرة الاستنباط الذهني للوصول الى علل الشرائع وغاياتها.

وفي هذه المقالات المتعددة واكمالا لمقالاتنا السابقة عن الوجود الاسلامي في أوربا سنحاول أن نرسم صورة تقريبية لحالة الاسلام والمسلمين في بلاد التخوم من أفريقيا وآسيا حيث المسلمين يعانون الأمرين من أجل الثبات على الدين في ظل محاولات القوى الكبرى لمحو الهويات وإذابة العوالم القديمة وصهرها في بوتقة (ثقافة واحدة معولمة) لا تعترف بالمقدس والآخروي ولا ترى في الإنسان إلا جنبته المادية المحضة وإلا توفير السبل لتحقيق سعادة زائفة منشودة ولو على حساب جراحات الآخرين وتعاستهم.

-مسلموا تايلند

تقع تايلند في جنوب شرق آسيا وقد عرفت هذه البلاد البحرية البعيدة كل البعد عن جزيرة العرب الاسلام أول ما عرفته عن طريق التجار المسلمون المعروفون بصدقهم ووفائهم بالعهود وإيمانهم بالله وحسن معاملتهم مما ترك ذلك أثرا طيبا في نفوس الناس الأصليين من (الملايو) وحفّز رغبتهم في معرفة دين هؤلاء التجار وعقيدتهم التي أوصلتهم الى هذا المستوى الأخلاقي الرفيع.

 وقد كان إيمان بعض سكان تايلند بتعاليم الاسلام متأتيا من قناعة تامة بهذا الدين حيث من المعروف أن فتوحات الاسلام لم تصل الى هذه الأراضي البعيدة ولم ترهب الناس أو تكرههم على الدخول الى هذا الدين الجديد، بالرغم من معرفة (الملايو) التايلنديين الى ديانات أخرى سابقة للاسلام وشائعة في جزرهم المتناثرة كالديانتين ( البوذية والهندوسية)، وهو ما يؤكد قدرة الاسلام على الانتصار في معارك الخضم العقائدي حتى بعدم وجود قوة عسكرية تدعمه وترافق دعاته وفهائه.

وقد اختلف المؤرخون في تحديد الفترة التاريخية التي عرفت فيها تايلند الديانة الاسلامية وهناك من يرجعها الى القرن الاول الهجري مستدلا بمعرفة العرب لركوب البحر منذ أقدم العصور، وهناك من يرجع تاريخ الدخول الاسلامي لهذه الجزر البحرية النائية الى القرن الثامن الهجري، ومع هذا فان هؤلاء المؤرخون لا يختلفون في أن انتشار الاسلام في تايلند مرّ بثلاث مراحل، هي: مرحلة التعرف الشكلي على الاسلام، ومرحلة اعتناق الاسلام، ومرحلة مقاومة موجات التنصير والتهويد التي رافقت السفن الغربية أيام الاحتلال الغربي مطلع القرن العشرين.

وتكاد تكون مقاطعة (فطاني) في جنوب مملكة تايلند من أكثر مناطق تايلند حضورا اسلاميا، ويعود ذلك الى أن سلاطين هذه المقاطعة وملوكها اتخذوا الاسلام دينا منذ أقدم العصور، ولم تثنهم إرادة القوة الغربية ممثلة بالغزاة البرتعاليين عن التشبث بدينهم وعقيدتهم التي أوجبت عليهم مقاومة المحتل والتصدي له بشتى السبل، وقد دفع المسلمون التايلنديون في (فطاني) آلاف الضحايا لردهم محاولات الغزاة في محو الهوية ومسخ الثقافة التي مورست ضدهم أيام الاستعمار البرتغالي.

ويبلغ عدد سكان هذه المقاطعة الجنوبية أكثر من خمسة ملايين نسمة الغالبية العظمى منها مسلمون من عنصر (الملايو) سكان البلاد الأصليين الذين يتكلمون اللغة (الجاوية) المعروفة بكتابة حروفها العربية والتي تحوي المئات من مفردات العربية ولا سيما تلك المتعلقة بالعبادات والفقه والاحكام الشرعية، ويرجع المهتمون شيوع هذه المفردات الى تأثير القرآن الكريم، بينما يرجعها البعض الآخر إلى كثرة المهاجرون العرب من اليمن وعمان وشبه الجزيرة العربية للعيش في تايلند بسبب جمال طبيعتها واعتدال مناخها على مدار العام.

ولا تخلو العاصمة بانكوك من أقلية مسلمة تتخذ من المناطق المحيطة بالعاصمة مكانا للسكن حيث تنتشر المساجد والمدارس الاسلامية التي بناها المسلمون المقيمون من حسابهم الخاص، ومثلما لأهل السنة والجماعة مساجدهم ومدارسهم في بانكوك وفتاني، فإن للشيعة حضورهم الملحوظ في تايلند ولا سيما في العاصمة بانكوك التي عرفت الأقلية المسلمة فيها مذهب الأمامية قبل 500 عام تقريبا من خلال التجارة بين المملكة التايلندية القديمة والدولة القاجارية في ايران، وفي مدينة (أيوتيا) يوجد ضريح كبير معروف باسم ضريح الشيخ أحمد القمي التاجر الكبير الذي استوطن بانكوك عام 1579م وترسخت علاقاته مع أمراء تايلند وسلاطينها الى درجة المصاهرة حيث تزوج احدى بناته أمير (أيوتيا) التايلندي بعد دخوله الاسلام واتخاذه دينا رسميا لأفراد أسرته، ومازال قبر الشيخ القمي يزار حتى يومنا هذا، أما مساجد الشيعة فهي كبيرة جدا ومزينة بالنقوش الاسلامية وعددها يزيد على السبعة مساجد في العاصمة بانكوك وما حولها، وهناك مدرسة مشهورة تعلم الفقه والعبادات على المذهب الجعفري وهي مدرسة (دار العلم) التي انشئت بتمويل من المرجع الراحل آية الله العظمى أبو القاسم الخوئي (قدس سرّه) وفيها فرع خاص للتعليم النسوي، وهناك دار كبيرة أخرى في محافظة (فتالونج) تابعة كذلك للسيد الخوئي -رحمه الله- هي مدرسة (دار الزهراء) بمساحة تقدر بـ 4000م مربع حيث تستقبل سنويا عشرات الطلبة من الراغبين بالعلوم الدينية.

وبسبب نظام الدولة الحر في هذه الدولة فإن اتباع أهل البيت لهم قناة فضائية محترفة تبث برامجها باربع لغات (التايلندية العربية الفارسية الانجليزية)، وهناك قنوات فضائية تبشيرية تحاول التأثير على الرأي العام التايلندي ولا سيما فئة الشباب منهم التي تعد الشريحة الأكبر في المجتمع التايلندي الذي يزيد عدد سكانه على السبعين مليون نسمة يشكل المسلمون عشر عدد السكان تقريبا وهي نسبة جيدة في بلد بعيد عن مراكز الجذب الاسلامي في الشرق الأوسط.

ويمارس المسلمون في تايلند طقوسهم بكل حرية لان حكومة تايلند الديمقراطية سنّت القوانين الدستوريّة على ما يوافق هوى كل انسان يولد فوق هذه الارض الخصبة، فالمسلمون هناك يمتلكون الحق في الاحكام الشخصية على وفق الشريعة الاسلامية اسوة باخوتهم التايلنديين من ديانات أخرى، ولعل أخطر ما يواجهه المسلمين هناك ضعف الامكانات المادية التي تؤهلهم لبناية المراكز والمدارس والجامعات الاسلامية لتحصين ناشئة الجاليات الاسلامية ولتعزيز روابط هؤلاء بدينهم وثقافتهم التي تهددها في ظل هذا الخضم المنفتح والحر غزوات الثقافات الأخرى الممولة والمدعومة من دول ومؤسسات (تبشيريّة تنصيرية) تمتلك المؤهلات الكافية للإقناع والتأثير، وقد قامت باستقطاب أعداد غفيرة من الهندوس والبوذ واللادينيين وحتى من شباب المسلمين غير المحصنين بثقافة إسلامية راسخة وقادرة على ردع هجمات الغزو الفكري التي تعج بها الساحة الثقافية والدينيّة في تايلند، ومع هذا الوضع غير المطمئن يظل المواطن التايلندي المسلم المحافظ على دينه مصداقا لحديث رسولنا الأكرم الذي تنبأ بقدوم زمان يكون فيه المؤمن الممسك بدينه كمن يقبض على جمر!!!