الإنسانية لغةً عالمية

غانيا درغام

تعد مخاطبة الروح من أسمى التعابير الإنسانية التي يستخدمها شخص تجاه شخص آخر، أو شعب تجاه شعب آخر، ويمكن أن تكون جسر العبور إلى الآخر بغض النظر عن الحالة الاجتماعية أو اللغة السائدة، ولأن الروح من نِعم الخالق فالإنسانية هي نظيرها في سلوك وفكر وعاطفة الفرد، وبالتالي لابد من تسليط منهجية الإنسانية على العموم بغض النظر عن الانتماء السياسي والديني والعرقي..

جاء في تعريف العلوم الإنسانية أنها" تسعى لتوسيع وتنوير معرفة الإنسان بوجوده، وعلاقته بالكائنات والأنظمة الأخرى، وتطوير الأعمال الفنية للحفاظ على التعبير والفكر الإنساني، فهو المجال المعني بدراسة الظواهر البشرية، وتتميز دراسة التجربة البشرية بأنها تجمع بين البعد التاريخي والواقع الحالي، حيث تتطلب هذه الدراسة تقييم التجربة البشرية التاريخية وتفسيرها، وتحليل النشاط البشري للتمكن من فهم الظواهر البشرية ووضع خطوط عريضة للتطور البشري".

ان رُقي الحالات الانسانية ينطلق من الفرد ذاته أولاً في وعي فكري تنموي، مفاده الرضا عن النفس كي يستطيع فيما بعد تكوين الوعي والإدراك لما حوله من خبرات وتجارب وأهداف كانت قبله ومعه، ثم يتطور فكره للمستقبل ضمن منهجية تشاركية مع محيطه الاجتماعي، لكي ينطلق إلى الشعوب الأخرى ويفهم أفكارهم وعاداتهم ومقدساتهم، إذاً الوعي هنا يجعل من الانسانية في مرتبة احترام الآخر ضمن موازين تؤكد أن لا خلاف في الاختلاف، بل هو التعرف على المفيد والجميل في الآخر.

"تختص العلوم الإنسانية بالنقد العلمي الموضوعي والواعي للوجود البشري ومدى ارتباطه بالحقيقة، فالسؤال الأساسي الذي يدور حوله العلم "ما هي الحقيقة ؟" والسؤال الجوهري الذي تطرحه دراسة العلوم الإنسانية "ما هي حقيقة الإنسان؟" ولإخضاع الظواهر البشرية للدراسة الصحيحة من الضروري استخدام نظم متعددة من البحث، فالأساليب التجريبية والنفسية/الفلسفية، والروحية للبحث هي المنهجيات المرتبطة بالعلوم الإنسانية".

لكن لا جدوى من تلك العلوم لترابط الانسانية بين الأفراد في مجتمع واحد أو الأفراد بين شعوب أخرى إن بُنيت على أفكار تعصبية أو سلبية تجاه الآخرين، الأمر الذي يجعل المسؤولية الأولى تقع على عاتق الأسرة كبيئة حاضنة لنمو فكر الفرد وميوله اللذان يتطوران إلى سلوكيات، لينطلق فيما بعد إلى التأثر بالدائرة الاجتماعية الأوسع التي تحيطه، فعندما يكون عقله متوازناً سيؤثر تدريجياً على نموه الفكري الانساني في تأثر واضح بالآخر، وعندما تكون الطاقة الإيجابية لديه أقوى من السلبية تعود عليه باكتساب الخبرات والسلوكيات الصحيحة من الآخر رافضاً تجزئة الإنسانية بين دين أو حدود أو لغة أو عرق، الأمر الذي يحد من نمو العنصرية داخله ويجعله أكثر ثقافة ومعرفة بذاته وانعكاسها على الآخر من جهة، ومن جهة أخرى يتكون الإدراك لديه في احترام الآخرين واستقطابهم عملياً وفكرياً لمنهجيته الذاتية، بعد الثقة التي كونّها لنفسه في ذاتهم، وهذا نسميه عبور الإنسانية لخلق كيان موحد يحترم الذات والمحيط العام.

في المجتمع الدولي صُكت العديد من الاتفاقيات والقوانين من أجل النهوض بالشعوب إلى مستويات انسانية عالية وحمايتها من التعديات على حقوقها المعيشية والوطنية، لكن هناك موازين متعددة تتلاعب بها بعض القوى السياسية تجاه شعب وآخر، كما تحاول تلك السياسات أن تزج مواطنيها ضمن بوتقة الانصهار الأعمى تجاه الحقوق الانسانية للعالم ككل، ومثالنا هو تهميش عقل المواطن فيها مع ضخ المبادئ والأحداث غير الحقيقية كي لا ينهض بنفسه ضدها، وكي لا يبدي أي تعاطف على المستوى الإنساني تجاه دولة ما، هذه السمة "الإنسانية" التي تخشى بعض الدول من نموها على مستوى العالم ككل..

عندما نتوجه للإنسانية فهذا يعني فصلها عن السياسة والعادات والمسائل الدينية والتقاليد لتتمحور الطاقة البشرية حول أيقونة الفكر الموسع والسلوك الفطري السليم، مع احترام المقدسات والطقوس المجتمعية للأمم، الأمر الذي ينهض بالبشرية ككل دون حروب وتعديات، مع نبذ الإرهاب الذي يعاني منه المجتمع الدولي على المستوى الشعبي في كل مكان تقريباً وهو - الارهاب – المسؤول عن المجازر، الدروع البشرية ودمار البنى التحتية للبلدان..

ومن جانب آخر، العلاقة السليمة بين الشعوب أصبحت تُبنى على الاقتصاد والثقافة والعلوم والفنون، إذ هي نتاج إنساني محض يسعى إلى النهوض بالفرد ويُنتج تطور المجتمع، أما إن كانت مبنية على الحقد والانتهازية فهي لا تمت إلى الإنسانية بصِلة، حتى ولو جُمّلت بعدة ادعاءات فحقيقتها تبقى واضحة، مثلاً عندما يقوم شخص ما أو مجموعة أشخاص بجريمة قتل او حالة تعدي على الآخر بغير حق، فإن سمة الإنسانية تسقط عنهم ويصبحون خطراً على الإنسانية جمعاء، أما إن اجتمع مجموعة أطباء من من بلدان مختلفة في غرفة عمليات موحدة لإنقاذ مريض، فهذا يعني أن صفة الإنسانية تتعدى كل الحواجز لتنقذ إنساناَ آخر قد لا يعرفون عنه شيئاً، وفي توسيع دائرة الإدراك نجد في كثير من الحالات حتى الكلمة البسيطة التي هدفها إنساني، تكون بمثابة إنقاذ من نوع آخر ليحتضنها وعي المتلقي لها وينتج التفاعل الإنساني المحض من هذه الكلمة..

الوعي الإنساني في أصله صورة متطورة عن الوعي الفردي، وإن تخطى مبدأ الشخصية فإنه سيرتقي أكثر، ويكون ارتباطه مباشراً بالمصير الإنساني بشكل شامل دون تجزئة، وبالتالي ان الفرد لن يفهم الألم الذي سيشعر به قبل أن يحدث فحسب، بل أيضاً سيشعر بالألم الذي يصيب إنسانيته في فرد آخر، الأمر الذي يجعل مسؤولية امتداد الإنسانية تقع على عاتق الفرد المتلقي لهذا الوعي، ويكون الرهان عليه بما يتصف به من إنسانية أيضا.