القرآن وكتب الحديث بين يديّ.. فلماذا أقلّد أحد المراجع؟ ح2
تُثار هذه الشبهة بين الحين والآخر: إذا كان المسلم عاقلاً ومدركاً وبين يديه كتاب الله المجيد ومجاميع كتب الأحاديث لأهل البيت الأطهار (عليهم السّلام) فلماذا يلزمه أن يقلّد مرجعاً في عباداته ومعاملاته الإسلاميّة؟
وهناك أسئلة أخرى من مثل: متى بدأ التقليد لدى الشيعة الإمامية؟ وما هو السند العقلي والنقلي لوجوبه على المسلمين؟ وهل مرجع التقليد يتعرّض لضغوط سياسيّة أو اقتصاديّة أو اجتماعيّة أو نفسية في بلورة وصياغة فُتياه؟ وغير ذلك من الأسئلة التي سيُجيبنا عليها أصحاب الفضيلة والسماحة..
ويقول سماحة الشيخ صالح الكرباسي في معرض ردّه على هذه الشبهة:
التقليد العرفي ظاهرة بشرية عامة قامت عليها سيرة الناس (سيرة العقلاء) في جميع شؤونهم الحياتية، حيث يرجع غير العالم في كل مجال من مجالات الحياة الى العالم.
وجاء المشرع الاسلامي، واقر هذه الظاهرة في مجال الامتثالات الشرعية فانبثق منها مظهر من مظاهر سيرة المتشرعة (المسلمين) حيث يرجع العامي الى المجتهد.
وتاريخ المسلمين المتشرعين (وهم المسلمون الملتزمون بالتشريع الاسلامي) أقوى شاهد على ذلك.
فقد بدأ التقليد الشرعي، بوصفه ظاهرة شرعية اجتماعية، في عهد رسول اللّه (صلى الله عليه و آله)، وبتخطيط منه (صلى الله عليه و آله) ثم بتطبيقه من قبل المسلمين بمرأى ومسمع منه (صلى الله عليه و آله) وتحت إشرافه و بإرشاده.
وتمثل هذا في الأشخاص الذين كان ينتدبهم (صلى الله عليه و آله) للقيام بمهمة تعليم الأحكام الشرعية في البلدان و الأماكن التي اسلم أهلها في عصره.
ومن هذا بَعْثِه (صلى الله عليه و آله) مصعب بن عمير إلى المدينة المنورة، و معاذ بن جبل إلى اليمن.
فقد كان المسلمون، في هذه ألاماكن النائية عن مقرّ النبيّ (صلى الله عليه و آله)، يتعلمون الأحكام من هؤلاء الصحابة المنتدبين لهم والمبعوثين إليهم، ويعملون وفق ما يتعلمون منهم.
وكانوا (اعني المسلمين) عندما يحتاجون إلى معرفة حكم شرعي للعمل به يسألون هؤلاء و يجيبونهم و يعملون وفق ما يفتونهم به.
و هذا هو عين التقليد المقصود هنا.
في إجابة السؤال التالي: " متى وجب التقليد على المسلمين؟ "
و هل كان المسلمون، أيام الأئمة، مقلدين خصوصاً أولئك الذين
كانوا في مناطق بعيدة عن الأئمة؟.
قال أستاذنا السيد الخوئي: " التقليد كان موجودا في زمان الرسول (صلى الله عليه و آله) وزمان الأئمة لان معنى التقليد هو اخذ الجاهل بفهم العالم.. ".
كانت هذه هي البداية الأولى لنشوء ظاهرة التقليد الشرعي، والمظهر الأول لانبثاق سيرة المتشرعة في هذا المجال من أحضان سيرة العقلاء.
ثم استمر التقليد يتبلور مفهومه بتبلور مفهوم الاجتهاد ممثلين لهذه السيرة المتشرعية التي أشرت اليها.
يقول شيخ الطائفة ابو جعفر محمد بن الحسن الطوسي في كتابه " عدّة الأصول ": " اني وجدت عامة الطائفة (يعني الإمامية) من عهد أمير المؤمنين إلى زماننا هذا (القرن الخامس الهجري) يرجعون إلى علمائها ويستفتونهم في الأحكام و العبادات، ويفتيهم العلماء فيها، ويسوغون لهم العمل بما يفتون به ".
و ما سمعنا أحدا منهم قال لمستفتٍ: لا يجوز لك الاستفتاء، ولا العمل به، بل ينبغي أن تنظر كما نظرتُ، و تعلم كما علمتُ، و لا
أنكر عليه العمل بما يفتونهم.
وقد كان منهم الخلق العظيم ممّن عاصروا الأئمة (عليهم السّلام)، و لم يحك عن واحد من الأئمة النكير على هؤلاء، و لا إيجاب القول بخلافه، بل كانوا يصوّبونهم في ذلك، فمَن خالف في ذلك كان مخالفاً لما هو المعلوم خلافه.
ويقول سماحة الشيخ محمد الصفار مبيّناً الحرية في اطار التقليد:
يتحدث صاحب «العروة» مقسماً لحال المكلف العادي في معرفة تكليفه أو حكمه الشرعي والقيام بتنفيذه فيقول: «يجب على كل مكلف في عباداته ومعاملاته أن يكون مجتهداً أو مقلداً أو محتاطاً».
ويتحدث بعض الشرّاح عن هذه العبارة بقولهم: إن صاحب «العروة الوثقى» ابتدأ بقوله «أن يكون مجتهداً» لأن الاجتهاد أشرف من التقليد.
الاجتهاد ملكة يحصّلها الإنسان بجده واجتهاده ليتمكن بها من استنباط الحكم الشرعي من مظانه، فيعرف الحكم الشرعي ويرتبط به مباشرة من دون واسطة.
فالاجتهاد أشرف من التقليد لما فيه من إعمال الذهن، واستقلالية الإنسان، ومباشرته لدليل الحكم الشرعي، أما التقليد فهو حاجة والحاجة لا شرف فيها، لكنها هنا وسيلة غير القادر بذاته للوصول إلى حكم الله، فيلجأ إلى من له هذه الإمكانية والقدرة وهو الفقيه الجامع للشرائط.
ولأن التقليد عبارة عن حاجة الجاهل في الرجوع إلى العالم، فإن ما يستشف من كلمات العلماء هو التعامل معها بضيق شديد، وضمن قيود معينة، مع دفع المكلف في العديد من القضايا والأمور لإعمال رأيه وتفكيره ليتوصل هو إلى رأي خاص به، من دون أن يخضعه لدائرة الاتباع والتقليد، وبذلك أوجدوا للمكلف مساحات واسعة يستطيع فيها مفارقة الفقيه، بمعنى عدم تقليده، معتمداً على نفسه، وسنتحدث فيها في هذا المقال وربما في مقالات لاحقة.
لقد أكد العلماء أن محل التقليد ومورده هو الأحكام الفرعية العملية، من صلاة وصوم، وزكاة وحجّ، وخمس وجهاد، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وتولّي لأولياء الله، وتبرّي من أعدائهم، ويتسع الأمر ليشمل المعاملات وأحكامها، من جواز وحرمة وغير ذلك، وكذلك الأمور العملية التي يبتلي بها الإنسان في حياته.
ربما يتفق جميع الفقهاء على استثناء جميع أصول الدين من مسألة التقليد، وهي الأمور العقدية الكبرى أو ما تسمى بأصول الدين، فلا يقبلون التقليد فيها.
يمكن الرجوع إلى نصّ المسألة في كتاب «العروة الوثقى» للعلامة الفقيه السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، للوقوف على مجموعة من الاستثناءات الخارجة عن وجوب التقليد، والتي يكون المكلف حرّاً طليقاً فيها، يستطيع إعمال ذهنه فيها، أو التماس المعرفة من آخر غير مرجعه إذا استقرب ما عنده من رأي واطمأن لحكمه وقطعه.
هناك عبارة دقيقة وواضحة في موقع المرجع الفقيه سماحة آية الله العظمى السيد علي السيستاني «لابد أن تكون عقيدة المسلم في باب أصول الدين عن بصيرة ووعي، فلا يمكن أن يقلد غيره فيها بمعنى أن يقبل قول غيره بها مجرد أنه يقول بها».
تعطي هذه العبارة حرية واسعة للمكلف في كبريات قضايا الدين والاعتقاد، فلا يوجد سمع وطاعة في هذا الموضوع بقدر ما يجب على الإنسان من التفكر والتأمل للوصول إلى النتائج بقناعة ومعرفة وليس بتقليد ومتابعة.