لماذا ينكرون محمّدًا (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ (5)
الباحثة: رجاء محمد بيطار
إن الدفاع عن الدين الإسلاميّ ونبيّه وكتابه العزيز، قد أتى نتيجة ذاك الهجوم الذي جوبه به منذ بداية البعثة المحمدية، على صاحبها وعلى آله أطيب الصلاة وأتمّ التسليم، وإن نظرةً واحدةً إلى أولئك المنكرين عبر التاريخ، واستعراض صفاتهم منذ البداية حتى يومنا هذا، تنبئنا بجملة أمورٍ يمكن أن نلخّصها بالآتي:
- إن أبرز صفةٍ اتّصف بها المنكرون هي السلطوية، وما كان إنكارهم لنبوة النبي (ص) إلا لأن سلطتهم الدنيوية على رقاب العباد أضحت بخطر، فقد جاءهم بما لا قِبَلَ لهم به، وساوى بينهم وبين عبيدهم وإمائهم، ونسائهم وغلمانهم، حتى ضجّوا مستنكرين عدله... ولم تكن شبهاتهم الواهية التي أوردناها في المقالات السابقة لتقنع أحدًا إلّاهم، هم ومن اتبع هواهم.
- إن على صاحب الرأي الحصيف، والراغب بالإنصاف والبرهان السليم، أن يلتفت إلى نقطةٍ في غاية الأهمية، ألا وهي أن ظلم العدو الفاسد لك واتّهامه إياك يمكن أن يدلّ على نزاهتك، إذ لو كنتَ فاسدًا كإياه لما عاداك، بل لوجد سبلًا للتعامل معك ترضيه، أما ورضاه يستوجب غضب الله، وطاعته تقتضي معصيته، وبما أنه "لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق"، فقد أظهر فساد أولئك الظالمين، بدءًا بكفار قريشٍ وزعمائها الفاسقين، ودهاة اليهود المرابين، مرورًا بأعداء الدين الإسلاميّ عبر القرون، أن الإسلام دين حقٍّ وإلا لما كرهه المبطلون، وهو دين صدقٍ وإلا لما أنكره الكاذبون، ودين خلق قويمٍ ونزاهةٍ ورأيٍ حكيم، وإلا لما خالفه الماجنون المطالبون بالتحلّل الأخلاقيّ العقيم...
- إن الدراسة المعمّقة في شرائع الدين الإسلاميّ وتأثيرها الشموليّ على المجتمع الإنسانيّ، من قِبَل شتى الباحثين، من مسلمين وغير مسلمين، تؤكّد إعجاز هذا الدين وإلهيّته من جهة، وتنفي عنه أباطيل المبطلين من جهةٍ أخرى، وقد قامت دراساتٌ عديدةٌ في شتى مجالات الحياة، من اقتصادية واجتماعية ونفسيةٍ و... و... لتوضح هذه الحقيقة، حتى آمن بها المنصفون في مشارق الأرض ومغاربها، ولكنّ الجانب الروحيّ من هذه الشرائع جعلها غامضةً على أهل المادة، فعميت عن إبصارها القلوب البليدة التي لا تؤمن إلا بالملموس والمحسوس، حتى إذا تخلّى الإنسان قليلًا عن عنجهيته الفارغة، رأى بعين القلب السليم ما لا تراه العيون...
- إن الهجمة الشرسة التي يواجهها النبي صلى الله عليه وآله وسلم والدين الإسلاميّ في العصر الحديث، هي امتدادٌ للهجمة التي واجهها عبر العصور، فالمنكرون لهم نفس الذرائع وإن اختلفت أسماؤهم ومُسمّياتهم، غير أن أساليب الهجوم تختلف باختلاف الأزمنة، وتتجدد مع الظروف الراهنة، وبما أن العصر الحديث كان عصر المواجهة مع الدين عمومًا، حيث كان للكنيسة في الغرب دورٌ سلبيٌّ في قمع العلم ورجاله، في العصور المظلمة، مما حدا بأهل العلم أن ينسفوا الدين من أساسه، ويرفضوه ويبحثوا عن السعادة الإنسانية والحرية الفكرية بعيدًا عنه... ولقد تأثّر بهؤلاء أهل الشرق المستغربين، ممن اطّلعوا على الثقافة الغربية في زمن الانحطاط الشرقيّ، في أواخر القرن الثامن عشر ومطلع القرن العشرين، حتى غدوا متحمسين لأفكاره، وأرادوا إسقاط مفهومه عن الدين على ديننا الإسلاميّ، ولكن فاتهم أن مقاربتهم باطلة، إذ أن ما داخل المسيحية من تحريفٍ جذريّ أولًا، ومن طغيان رجال الدين وسيطرتهم على السلطة وتدخّلهم في سيرورة العلم ثانيا، لم يحصل مثله في الإسلام، وكان جلّ تدخّل رجال الدين لا يتجاوز دعم قلةٍ منهم للسلطة الغاشمة في بعض الأحيان، بينما حمل كثيرٌ من رجال الدين، الشيعة منهم خصوصًا، لواء مقاومة الظلم والطغيان، وبلاد جبل عامل والعراق وإيران، وغيرها من بلاد المسلمين شاهدة على هذه الحقيقة... مما ينفي عن الدين الإسلامي كل تهمةٍ أراد العرب المستغربون أن يلصقوها به، بحيث لا يمكن لهم أن يأتوا بالفلسفات الغربية اللادينية ويفصّلوها على مقاس المجتمعات الإسلامية...
- تتنوّع الشبهات التشريعية التي يطرحها المنكرون، ولكنها عمومًا تتمحور حول ادعاء المحافظة على حقوق الإنسان والحريات الفردية كما يدّعون، ولنا أن نذكر بعضها على سبيل المثال، مع الردّ عليها بما يناسب:
- ها هم المثليون وأنصارهم يستنكرون أن يرفض الإسلام شذوذهم بإنزال العقوبات الصارمة بحقّ مرتكبيه، ويتناسون أن مثل هذا الشذوذ ليس حريّةً، بل هو انهيارٌ لقيم المجتمع الإنساني، والسكوت عنه يعني الرضا به وتشجيعه، ومن ثمّ هدم الحياة البشرية، ومخالفة الطبيعة البشرية وبال على الإنسانية جمعاء، وهذا ما أقرّته القوانين الوضعية المنصفة، فما بالك بدينٍ إلهيّ شامل؟!
- يعدّ المنكرون تعدّد الزوجات الذي أباحه الإسلام مثلبة بحقّ هذا الدين، ويتناسون أن هذا التعدّد مشروطٌ من ناحية، كما أنه ليس فرضًا بل اختياريًّا ومباحًا من ناحيةٍ أخرى، أي أن الفرد قد يقوم به وقد لا يفعل، بحسب قناعته وظروفه، بينما لا يستنكر هؤلاء تعدّد العلاقات الحميمة خارج حدود الزواج، ويعتبرون هذه الفوضى الأخلاقية حرية!
- يرفض المنكرون فكرة الزواج المؤقت، الذي لا يختلف عن الزواج الدائم في شيء، سوى في تحديد مدته الزمنية، ويقبلون بالزنا وبالزواج المدني القائم على عقدٍ صوريّ يشبه إلى حدٍّ بعيدٍ عقود البيع والشراء والتأجير، ولا يرون بأسًا في تلك العقود التي لا تحترم الزواج كمؤسسة إنسانية، بينما كل مشكلتهم تكمن في مخالفة تشريع الزواج المؤقت وحيثياته.
نكتفي بهذا القدر من الأمثلة على الشبهات التشريعية التي يطرحها المنكرون، ويمكن لنا من خلال نظرةٍ شاملةٍ إليها وإلى أسبابها أن نلاحظ كيف يقيس المنكرون بمقياسين، ويناقضون أنفسهم ويفضحون دواخلهم، ويمكن لنا كنتيجةٍ لهذه الملاحظة الدقيقة أن نجزم بأن مشكلتهم ليست مع التشريعات بقدر ما هي مع الدين نفسه، ومع مطبّقيه أحيانًا، حينما يسيء هؤلاء المطبّقون إلى الدين بفهمهم الخاطئ له... وما تلك الأقاويل والترهات التي يطلقها المنكرون إلا لتشكيك ذوي الإرادات الضعيفة والقلوب المتزلزلة في دينهم الحنيف، ليحرفوهم عنه ويذهبوا بهم إلى مهاوٍ بدأت تتكشّف أباطيلها لأصحابها أنفسهم...
إن الغرب نفسه اليوم قد بدأ يستفيق، ليبحث عن البديل لحضارته المتهافتة، بعدما رأى بأمّ العين ما هي فيه من ضعفٍ وانحلال، بينما يلهث الجهلاء خلف تلك الحضارة الغبية التي لا تؤمن إلا بمصلحتها، ولا تعرف لها دينًا ولا ربًّا إلا المال والسلطان والشهوات العمياء...
إن المنكر للتشريع الدينيّ الإلهيّ بحجة عدم اقتناعه به، هو نفسه ذاك الذي يتقبّل تشريعًا دنيويًّا وضعه بشرٌ مثله، وينصاع له ويطبّقه ويلتزم به، بحجة أنه قانون، غافلًا عن أن التشريع الإلهي هو قانونٌ أيضا، ولكنه قانونٌ صادرٌ عمن هو أعلم بالإنسان من نفسه، وبالتالي فهو الأكثر شمولًا وبعدًا عن الخطأ...
ولعلنا لو أردنا أن نذكر كلّ ما يفتريه ويعيبه المنكرون في ديننا ونبينا لما استطعنا ذلك، لا لكثرة هذه الافتراءات بل لأنها افتراءات تزيد وتنقص حسب مزاج قائلها... فالخلاف مبدئي، ولذا فكل ما ينتج عن هذا المبدأ مرفوضٌ لديهم... ولكننا نكتفي بما أوردنا، عسانا نكون قد أضأنا ولو شمعةً في ظلمات هؤلاء المنكرين لعلهم يعقلون أو يهتدون، أو على الأقل ينكفئون خاسئين...
ولعل أنجع ما يمكن الردّ به على كلّ منكر، سوى ما تم إيراده من حجج وبراهين، سؤالٌ أوحد يغني عن كلّ سؤال:
- لقد ناقشتمونا في ديننا وأجبناكم بالمنطق السليم، ولكم أن تقتنعوا أو لا تقتنعوا فما أكثر المكابرين، ولكن عليكم بالمقابل، أن تجيبوا عن سؤالنا لكم: ما دليلكم على صحة ما تتبعون من مبادئ، وعلى أنها تسوقكم إلى السعادة الإنسانية حقّا؟ لماذا يحق لكم أن تناقشونا في ديننا ونبينا، وكأنما هو اتهامٌ معيب، بينما لا يحقّ لنا أن نطرح عليكم أسئلتنا واستنكارنا؟! أجيبوا إن كنتم فاعلين.
إن هذا السؤال ينقل ساحة الاتهام إلى مكانها الصحيح، فالأصل أن يؤمن الإنسان، والمجادلة في أحقية الإيمان باطلة، أما العكس فهو ما ينبغي لهم إثباته...
بهذه الإشكالية نختم هذا الجزء من سلسلة مقالات "لماذا ينكرون محمدًا؟" لنطرح في المقال المقبل السؤال الرديف: "لماذا ينكرون الإمامة؟"، فنسأل الله التوفيق لمتابعة الطريق.
*سلسلة مقالات عقائدية تجيب عن أسئلة الإنكار العقائدي التي يواجهها المجتمع الإنساني منذ بدأ الخلق.