على ضفاف كوثر كربلاء

إنّ الزيارات المأثورة عن الأئمّة (عليهم السلام) بحقّ سيّد الشهداء (عليه السلام) هي جانب من فضائل ومناقب تلك الذات المقدّسة، وصحبه الكرام وشهداء كوثر كربلاء العظام، ومشتملة أيضاً على مقدار من تكاليف محبّي القرآن والعترة، ونذكر ـ من باب المثال ـ شيئاً مختصراً منها:

1ـ مَن حضروا كوثر كربلاء ـ لا سيّما سيّدهم ـ ، في الواقع هم ثار الله(عز وجل)، ومعنى ذلك أنّهم ضحّوا بدمهم في سبيل الله، والله تعالى وليّ دمائهم وهو الطالب بها. والسر في رقي هذه الدماء هو كمال التقوى والإخلاص الذي اتصف به هؤلاء الشهداء. فحينما يعدّ الله تعالى الذين يقدّمون قرابينهم بأنّه لا يناله منها إلّا التقوى كما في قوله: ﴿لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ) ([1]) إذن فلا محالة ينال الله التقوى من الشهداء الذين يضحّون بأنفسهم ودمائهم، و(النيل) في الآية الآنفة الذكر مفهوم أرقى من (الصعود) الذي ورد في قوله تعالى: ﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾([2]).

2ـ إنّ أبدان الشهداء ـ ولا سيّما شهداء كوثر كربلاء ـ كانت طيّبة وطاهرة معنوياً، وهي منبع طيّب وطهارة وبركة الأرض التي رقدوا فيها: «طبتم وطابت الأرض التي فيها دفنتم»([3])، ومن الواضح أنّ الأرض الطيّبة تُخرج ثماراً طيبة بإذن الله: ﴿ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ﴾ ([4])، وهذه الثمار الطيّبة التي أعطتها أشجار نمت في روضة طيّبة، هي عين العقل العلمي والعدل العملي، وهذا يعني أنّ بلاد الشهداء هي مهد الكمال الشامل.

3- الشهداء محفوفون بالرزق الطيّب؛ وذلك لأنّ بين يديهم مائدة واسعة: ﴿بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ... ﴾([5]) وخلفهم مأدبة حاضرة: «طبتم وطابت الأرض التي فيها دفنتم»([6]). وهذا الاحتفاف من جميع الجوانب ببركة أُمنيتين، الأولى: إرادة الشهيد، والثانية: للسالكين على نهجه، أمّا الأمنية الأولى: فهي أُمنية الشهيد التي وردت في سورة (يس) حيث جاء: ﴿ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُون * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِين ﴾([7])، و(المكرمون) اصطلاح قرآني يراد به ملائكة ربّانيون، ولذا ورد في آية أُخرى: ﴿ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُون  * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُون ﴾([8])، وأمّا الأمنية الثانية: فهي أُمنية السالك لطريق الشهادة التي وردت في الزيارة: «يا ليتني كنت معك فأفوز فوزاً عظيماً»([9])، ولعلّ ما جاء في الزيارة الأولى لسيّد الشهداء(عليه السلام) ناظر إلى هذا المعنى حيث ورد: «... أنا عبد الله... والوافد إليك، ألتمس بذلك كمال المنزلة عند الله(عز وجل)، وثبات القدم في الهجرة إليك»([10]).

4ـ إنَّ شهداء كوثر كربلاء بإمامة أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) هم دعاة الأمّة الإسلامية والمجتمعات البشرية إلى الله تعالى على مناهج الأنبياء؛ ولذا ورد في الزيارة: «أشهد أنّك قد أقمت الصلاة... ودعوت إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة»([11])، وبما أنّ الإمام (عليه السلام) قد حظى بالقرب الإلهي، وبلغ كمال ذلك القرب بواسطة الفرائض والنوافل؛ لذا قد ورد في زيارته: «السلام عليك يا مَن رضاه من رضا الرحمن وسخطه من سخط الرحمن»([12]).

5ـ إنَّ سيّد الشهداء (عليه السلام) وارث جميع الأنبياء (عليهم السلام) والأئمّة (عليهم السلام) الذين سبقوه، وشاهد الصدق على ذلك صدر وسياق زيارة وارث، فرغم أنَّ كلّ إنسان كامل معصوم قد نال درجة الخلافة والفوز بالإمامة هو وارث لمن سبقه من المعصومين (عليهم السلام)، بيد أنّ ظهور تلك المواريث وبروز تلك الكمالات لم يكن مقدّراً للجميع.

وينبغي الانتباه إلى أنّ المعصومين الكمّل هم ورثة الكرامة والعلم الإلهي، ولا يتّبعون أحداً آخر، بل المرجع النهائي الذي يرجعون إليه باعتبارهم خلفاء الله، هو الميراث المستخلف عن الله الذي يوصله إلى خليفته، وجميع الأنبياء هم خلفاء الله، وإن أمكن ذكر أمر آخر بشأن الإمام(عليه السلام). فمن قوله تعالى: ﴿ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾([13]). يستفاد أنَّ النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله) يقتدي بهداية الأنبياء السابقين، لا يهتدي بهم أنفسهم، ولذا لم ترد الجملة هكذا (فبهم اقتده)، وبما أنَّ المعارف تأتي من مصدر واحد عن طريق الوحي، وتتمّ دعوة المجتمع البشري إليه، إذن فالمورَّث والمُورِّث لكلّ ذلك هو الله (عز وجل)، وأنّ سيّد الشهداء (عليه السلام) هو الإمام المعصوم الكامل والكون الجامع، فهو حاوي لجميع كمالات المعصومين السابقين، وقد وهب الله (عز وجل) له جميع تلك الفضائل، وأنّ نصيب الصادر الأوّل أو الظاهر الأوّل أي: النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) محفوظ في هذا التوريث.

6ـ إنَّ زائر كوثر كربلاء بعد أن يقدّم سلامه واحترامه يبلّغ سلام الله تعالى إلى أولئك الشهداء ولا سيّما سيّد الشهداء (عليه السلام)، ويدلّ على هذا ما جاء في زيارة وارث: «عليكم منّي جميعاً سلام الله أبداً ما بقيت وبقي الليل والنهار»([14])، ويشهد على ذلك أيضاً ما ورد في زيارة أبي الفضل العباس(عليه السلام) من إبلاغ سلام الملائكة المقرّبين والأنبياء المرسلين وعباد الله الصالحين وجميع الشهداء والصدّيقين([15]).

وبطبيعة الحال إنّ هذه المنزلة نالها الزائر ببركة المزور، وقد ورد في القرآن السلام من الله على الأنبياء والسائرين على نهج النبوّة والرسالة وخلافة الله(عز وجل): ﴿سَلاَمٌ عَلَى إِبْرَاهِيم * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِين﴾([16])  ﴿ سَلاَمٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُون* إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِين([17]). ويُفهم من ذلك أنّ المحسنين ومن ينالون مقام الإحسان والذين يفوزون بالفيض كانوا محلاً للسلام من الله سبحانه.

7. الانتفاع من كوثر كربلاء له مظاهر، من أبرزها التولّي والتبرّي العملي والاعتقادي والسلوكي، ومن جملتها قوله في الزيارة: «يا أبا عبد الله إنّي سلم لمن سالمكم وحرب لمن حاربكم إلى يوم القيامة»([18]).

ويستفاد من هذا الكلام أنّ الزائر الحسيني مجاهد في سبيل الله ومنزّه عن التساهل في الدين والتسامح في العقيدة، كما يستفاد من زيارة الجامعة الكبيرة أنّ المتّبع لأهل البيت(عليهم السلام) مضافاً إلى اتصافه بالمناقب الآنفة الذكر هو من أهل التحقيق، يحقق ما حقق أهل البيت(عليهم السلام)، ويُعدّ ما أبطلوه باطلاً منقضياً، ويسعى إلى إبطال الباطل وإزهاقه، ونتيجة ذلك العلم والعقل والحكمة والعصمة من اللهو واللعب، وعبارة: «محقّق لِما حقّقتم ومبطل لِما أبطلتم»([19])، ناظرة إلى هذا الأمر، وكذا الجملة الغزيرة المضامين«محتمل لعلمكم»([20]) الدالّة على طلب العلم المأثور عن تلك الذوات المقدّسة والموروث منهم، وقد وصفوا ذلك العلم بقولهم: «... لا يحتمله إلّا ملك مقرّب، أو نبي مرسل، أو عبد مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان»([21]).

إنّ زائر أهل بيت الوحي ـ لا سيّما كوثر كربلاء ـ طالب لعلم خاص وللحديث الصعب المستصعَب، وبعض أسرار عالم الوجود، على أمل أن يحظى المحبّون للقرآن والعترة وعلى الخصوص عشّاق كربلاء بهذا المقام الرفيع. ويستفاد من الشعار الأساسي للحسينيين: «وجعلَنا وإيّاكم من الطالبين لثأره»([22])، إنّ شيعة أهل البيت (عليهم السلام) يطالبون بدماء مورِّثيهم؛ وذلك لأنّهم عندما آمنوا بنبوّة خاتم الرسل (صلى الله عليه وآله) وإمامة الأئمّة الاثني عشر(عليهم السلام) فقد لبّوا نداء النبي (صلى الله عليه وآله): «أنا وعلي أبوا هذه الأمّة»([23])؛ ولذا فالشيعة يمتلكون الإجازة بذلك، بل إنّ الشيعة مأمورون بالمطالبة بدماء أبيهم المعنوي، وهذه المطالبة تصل إلى قمّة كمالها عند ظهور الطالب بدماء الأنبياء وأبنائهم، والمطالب بدم المقتول بكربلاء الإمام خاتم الأوصياء الغائب الحاضر المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) الموعود بقيّة الله (أرواح من سواه فداه)، وعند ذلك ينسى كلّ عاشق معشوقه، ويتّضح أنّ العقل الذي سُمّي بالمرشد لجميع العلوم غير مطّلع على نخب جوده وكرمه.

من كتاب (كوثر كربلاء)

لآية الله العظمى الشيخ عبد الله الجوادي الآملي (دام ظله)

مؤسّسة وارث الأنبياء للدراسات التخصّصية في النهضة الحسينية

 


 ([1]) الحجّ: آية37.

 ([2]) فاطر: آية10.

 ([3]) الطوسي، محمد بن الحسن، مصباح المتهجّد: ج2، ص723، المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج98، ص201.

 ([4]) الأعراف: آية58.

 ([5]) آل عمران: آية196ـ 170.

 ([6]) الطوسي، محمد بن الحسن، مصباح المتهجّد: ج2، ص723، المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج98، ص201.

 ([7]) يس: آية 26ـ 27.

 ([8]) الأنبياء: آية26ـ 27.

 ([9]) ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص237، المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج98، ص184.

 ([10]) الصدوق، محمد بن علي، من لا يحضره الفقيه: ج3، ص518، القمّي، عباس، مفاتيح الجنان: الزيارة المطلقة الأولى للإمام الحسين(عليه السلام).

 ([11]) الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج4، ص574، القمّي، عباس، مفاتيح الجنان: الزيارة المطلقة الخامسة والسادسة لأبي عبد الله(عليه السلام).

 ([12]) ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص213، المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج98، ص167.

 ([13]) الأنعام: آية90.

 ([14]) ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص176. القمّي، عباس، مفاتيح الجنان: زيارة عاشوراء.

 ([15]) ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص256، القمّي، عباس، مفاتيح الجنان: زيارة العباس بن علي(عليه السلام): «سلام الله وسلام ملائكته المقرّبين، وأنبيائه المرسلين، وعباده الصالحين، وجميع الشهداء والصدّيقين، والزاكيات الطيّبات فيما تغتدي وتروح، عليك يا بن أمير المؤمنين، أشهد لك بالتسليم والتصديق والوفاء والنصيحة لخلف النبي المرسل، والسبط المنتجَب، والدليل العالم، والوصي المبلّغ، والمظلوم المهتضَم».

 ([16]) الصافات: آية109ـ 110.

 ([17]) الصافات: آية120ـ 121.

 ([18]) ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص176، القمّي، عباس، مفاتيح الجنان: زيارة عاشوراء.

 ([19]) الصدوق، محمد بن علي، من لا يحضره الفقيه: ج2، ص614، القمّي، عباس، مفاتيح الجنان: زيارة الجامعة الكبيرة.

 ([20]) نفس المصدر.

 ([21]) الصفار، محمد بن الحسن، بصائر الدرجات: ج1، ص21، المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج2، ص191.

 ([22]) ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص175، الكفعمي، إبراهيم بن علي، البلد الأمين: ص269.

 ([23]) الصدوق، محمد بن علي، عيون أخبار الرضا(عليه السلام): ج2، 85، المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج16، ص95.