حياة النبي الأكرم من منظار المستشرق الفرنسي (إميل درمنغم)

د. هاشم الموسوي

- بعض المستشرقين عُرفوا بالعدالة والإنصاف فكتبوا بحيادية منصفة حينما حللوا تاريخ المنطقة وفككوا أفكارها عندما سلطوا الأضواء على رموزها الكبيرة

ترعرع الاستشراق في أوربا خلال القرنين التاسع عشر والعشرين بفعل مؤثرين اثنين رئيسيين، هما تأثير الكنيس الذي كان يدفع باتجاه التبشير بالتعاليم المسيحية وحث السكان الأصليين للمناطق التي تحتلها الآلة العسكرية الاستعمارية على ترك دينهم الذي ورثوه عن أسلافهم بحجة أن النصرانية هي الدين الذي ينبغي أن يعم كل أرجاء المعمورة، أما العامل الثاني فكان الدافع الرسمي (الحكومي) الذي يدفع باتجاه الاحتلال بقوة السلاح، وكانت معرفة الشعوب المغزوّة جزءا من التمهيد الذي لا بد منه لإحكام القبضة بعد معرفة تاريخ الشعوب وعاداتها وتقاليدها وأديانها ولغاتها وآدابها وفنونها وتراثها الفكري والروحي.

ولذلك فإن الأعم الأغلب من النتاج الفكري للاستشراق هو نتاج محكوم بسياسة معينة هي سياسة الهيمنة التي تفترض تقديم صورة سيئة عن الأمم المغلوبة تتيح فرصة إقناع الشعوب الغربية بما تفعله الحكومات والكنائس من سياسات وإجراءات معينة، ولكن ذلك لا يعني أن كل المستشرقين العاملين في مؤسسة الاستشراق وقعوا في هذا الفخ القسري، فهناك بعض المستشرقين عرفوا بالعدالة والإنصاف فكتبوا بحيادية منصفة حينما حللوا تاريخ المنطقة وفككوا أفكارها عندما سلطوا الأضواء على رموزها الكبيرة.

ومن هؤلاء المستشرقين الكاتب الفرنسي (إميل دِرْمِنْغَم 1982- 1971م) الذي عرض سيرة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، من الميلاد حتى الوفاة، بأسلوب جميل، ومن خلال تحليل عميق، ووقفات منصفة في كتابه الموسوم (حياة محمد)، وقد صدر الكتاب عام 1929م، وترجمه إلى العربية أستاذ من خيرة المترجمين العرب، وهو المترجم المرحوم (عادل زعيتر) وطبع بالقاهرة عام 1945م، ثم أعيدت ترجمة الكتاب في العام 2009م بعد أن أضاف عليها ابن المترجم (محمد عادل زعيتر) إضافات وتعديلات مهمة أخرجت الكتاب بحلة عصرية تناسب الأذواق المختلفة.

وقد ولد المستشرق (اميل درمنجم) في باريس عام 1892 وتخصص في الدراسات اللاهوتيه والفلسفية وكان مستشارا بوزارة الخارجية الفرنسية، وقد طبع مجموعة من المؤلفات بالفرنسية حول ( تاريخ المسيحية) ومؤلفات أخرى حول (حياة الرهبان والرهبنة) ثم حدثت انعطافة فكرية في حياته حين انتقل إلى الجزائر وعمل ضمن آلة الاحتلال الفرنسي التي جعلته باحتكاك مباشر مع عذابات الجزائريين اليومية من نير هذا الاحتلال.

فاتسعت دائرة اهتماماته لتشمل تاريخ الإسلام، وحضارة المسلمين التي قرأها بلغتها الأصلية وبمصادرها الأم، حتى صار واحداً من المستشرقين المتميزين في معرفة تاريخ الإسلام وفي التعريف بأحوال المسلمين وشؤونهم للغرب الأوربي، ونتيجة لحضوره الرسمي والثقافي في منطقة شمال أفريقيا فقد أصدر مجموعة من الكتب في هذه المرحلة، ففي عام 1926 نشر كتابه (قصص من فاس) وفي عام 1949 أصدر كتابه (ذكريات مع الأمير عبد القادر الجزائري) الذي كان قائد المقاومة الجزائرية في حرب عام 1830 ضد الفرنسيين، وفي عام 1929 أصدر كتابه عن حياة النبي الأكرم محمد، الذي حقق نجاحاً وطبع عدة مرات بالفرنسية ثم ترجم إلى الانجليزية، والعربية، وقد لاحظ مترجمه الأول الفلسطيني (عادل زعيتر) أنه مع كثرة تأليف المستشرقين لكتب عن حياة الرسول الأعظم في مختلف اللغات، فإن اللغة العربية خالية من ترجمة أي كتاب منها، لأن المستشرقين تجاوزوا ولم يحترموا الحقائق في حياة الرسول، وكان ذلك سبباً فيما اعتبره (زهد كتاب العرب في نقل ما ألفه بعض المستشرقين المتعصبين إلى العربية).

يدشّن ( إميل درمنغم) كتابه من موقف الإعجاب بسيرة النبي وبشخصيته الإنسانية، وما عرفته حياته من مآثر وقيم أخلاقية قلما تتوافر لشخصية إنسانية أخرى، مفضلا التعامل مع الروايات الصادقة التي سجلتها كتب التاريخ الإسلامي والسيرة النبوية والأحاديث الصحيحة غير الضعيفة، ناقلا في مقدمة كتابه ما نصه: (أردتُ بهذا الكتاب أن أؤلف سيرة ناطقة صادقة للنبي محمد مستندًا إلى أقدم المصادر العربية غير غافل عما جاء في المؤلفات الحديثة، وقد شئتُ أن أرسم للنبي صورة مطابقة لِمَا وُصف به في كتب السيرة ولما يجول في نفوس أتباعه ما استطعتُ إلى ذلك سبيلاً، وإذا كانت كل نفس بشرية تنطوي على عبرة، وإذا كان كل موجود يشتمل على عظة؛ فما أعظم ما تثيره فينا حياة رجل يؤمن برسالته فريق كبير من بني الإنسان!) محاولاً الابتعاد عن أساليب المستشرقين التي وصفها بالمغالاة والمغالطة مدركا ما يقف خلفها من دوافع وأبعاد فضل عدم الخوض فيها.

وقد نبّه (در منغم) إلى خطورة النزوع الاستشراقي في الدراسات السابقة في مسألة استهداف الاسلام ورموزه التي يقدسها المسلمون وعلى رأسهم رسوله الأكرم الذي لقي حيفا كبيرا بسبب التعصب الفكري الذي وسم بعض العقول الاستشراقية التي انساقت وراء الهوى والزيف المرفوض في الدراسات الموسومة بكونها دراسات علمية تتصف بالموضوعية، فيقول موضحا ذلك: (وقد ظلت الأحقاد والخرافات تحاك حول الإسلام؛ فقد وُصف منذ زمن رودولف دولودهيم قبل قرون إلى يومنا هذا، من قِبَل نيقولا دوكوز وفيفيز ومراتشي وهوتنجر وبيلياندر وبريدو وغيرهم، بأنه نبيهم دجال، ووُصف الإسلام بأنه مجموعة إلحاد وضلالات، وبأنه من عمل الشيطان، وبأن المسلمين من الوحوش، وبأن القرآن نسيج من الأباطيل) ولو تروّى هؤلاء كما تروّى (در منغم) لتأكد لهم عظمة نبي الاسلام وعظمة أخلاقه وعطائه الإنساني وعدالته وتقواه وحبه للخير والإنسانية. فحياة محمد عند هذا المستشرق موصوفة بقوله: (حياة محمد شاهدةٌ على اعتقاده صدقَ رسالته التي حمل أمانتها الثقيلة ببطولة. وإن قوة إبداعه، وعبقريته الواسعة، وذكاءه العظيم، وبصره النافذ الحديد، وقدرته على ضبط نفسه، وعزمه المكين، وحذره، وحسن تدبيره، ونشاطه، وطراز عيشه؛ مما يمنع عَدَّ ذلك الموحَى إليه الموهوبَ الجليَّ مبتلًى بالصَّرع والمرض والعدوانية).

وقد أثر كتاب (در منغم) كثيرا في دوائر الاستشراق الفرنسية والأوربية، مما دعا هذه الدوائر الى مراجعة أفكارها وحساباتها السابقة بفعل المنزلة العلمية والثقافية التي تحلى بها صاحبه، كما لعب الكتاب دوراً مهماً في المشهد الثقافي العربي في النصف الأول من القرن الماضي عندما قرأه بعض المفكرين العرب بصيغته الفرنسية، فقد ألهمَ الكاتب المصري (محمد حسين هيكل) لكتابة سفره الكبير (حياة محمد) الصادر عام 1935، لما أبداه من آراء ومواقف جعلته يرى بعثة النبي الأكرم قد حدثت في دور من أشد أدوار التاريخ ظلامًا، وكانت الحضارات التي قامت في البلدان الممتدة من بلاد المغول إلى بلاد الهند، مضطربة متداعية، وبالتالي فإن ظهوره يعد مثل النور الوهاج الذي محا ظلام العصور القديمة التي عرفت بالوحشية والتأخر وقد جاء نهوض النبي الأكرم محمد ليدعو قومه إلى دين الواحد الأحد، ولينبِّه غافلي آسيا وإفريقية، وليحرر من رقّ التقليد جميع الذين يدركون حقيقة رسالته، وليجدد بلاد فارس الناعسة، وليحثَّ نصرانية الشرق التي أفسدتها التأملات الفاترة.

ولعل هذه الأمور وسواها مما اشتمل عليه الكتاب تجعل الرسول الأكرم واحداً من الشخصيات التي استرعت اهتمام المفكرين الأوربيين الذي وقفوا مشدوهين حينما عرفوا بعض الحقائق التي طمسها التعصب الأعمى، وأصبحت مسؤولية تعديل القناعات وتصويب الأفكار أمرين لا مندوحة عنهما لكل باحث لبيب، يبحث عن الحقيقة صافية مجردة كما هي لا كما نقلت اليه مشوهة كاذبة عارية عن المصداقية والقبول.