ملامح العلاقة بين الدولة والشعب

قراءة في كتاب السيد مرتضى الحسيني الشيرازي

د.  علي ياسين

في ضوء الآية القرآنية الكريمة ( إنّ الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل نعمّا يعظكم ) يحاول العلّامة السيد مرتضى الحسيني الشيرازي أن يؤسس لمجموعة من التصورات والمفاهيم التي تربط بين الحاكمين والمحكومين من خلال كتابه (ملامح العلاقة بين الدولة والشعب) الذي يوزّعه على اثني عشر فصلا كاملا اشتمل كل منها على ثلاثة مباحث اختلفت فقراتها -عدداً وحجماً- بحسب طبيعة الفصل الذي تنتمي إليه لتشكل في نهاية المطاف ما مجموعه اربعمائة وتسع عشرة صفحة سعى من خلاها الكاتب لاستقراء مجموعة الأدلة والأحكام والشواهد التي تنطوي عليها هذه العلاقة الأزلية والجدلية بين الحاكم والمحكوم، أو كما أطلق عليها عنوان الكتاب ( الدولة والشعب ).

في الفصل الأول الموسوم بـ (الأمانة وموقعها في العلاقة بين الدول والشعب ص 15 وما بعدها) يسعى الباحث من خلال مبحثه الأول التعويل على مجموعة مرتكزات قرأ على ضوئها الآية المذكورة، وقد نعتَ هذه المرتكزات بـ( البصائر القرآنيّة، ص16) وتشتمل هذه المرتكزات فيما تشتمل عليه استيعابا عاما لروح النص المذكور وفحصا خاصا للأسلوب اللغوي الذي عبّرت من خلاله الآية كتوظيف التوكيد في تبليغ الأمر الإلهي (إنّ الله يأمركم ) لما يحمله هذا التوكيد من دلالة الحث على التقيّد بالأمر، فضلا عن عمومية الخطاب في التعبير وتوجّهّه إلى جميع شرائح المجتمع وطبقاته بمن فيهم الحكام والمحكومين على حدٍّ سواء، وهم مدار الكتاب وقطب الرحى فيه، انطلاقا من أن ( كل إنسان عليه أن يؤدي الأمانة المؤتمن عليها، ص17 ).

ولا يفوت السيد الشيرازي - وهو يتفحص أسلوب التعبير الفرآني -  أن يلتفت إلى الصيغة التي يرد عليها الفعل المضارع المصدّر بأن المصدرية في قوله تعالى( أن تؤدّوا ) وما تحمله هذه الصيغة من دلالة على الاستمرارية والحالية في آن واحد، وهو ما يقود بالنتيجة إلى أن أمر الله تعالى هو ( أمر نافذ على امتداد الأزمنة، ص 19 ) وهو ما جسّدته صيغة التعبير الواردة في الفعل المصدري المذكور .

وحين يصل السيد العلامة لفظة ( الأمانات ) الواردة في الآية، فإنّه يتوقف عندها طويلا لأن تحديد المفهوم المجرّد لهذه اللفظة سيُسهم في بلورة المفهوم الواقعي الذي سينبني عليه تصوّر السيّد الشيرازي، وهو تصوّر يدور في فلك الفهم الإسلامي ويتناغم معه تناغما واضحا، كما سيتبيّن لنا لاحقا.

تفيد لفظة ( الأمانات ) الواردة في الآية معنى العموم والاستغراق ( المادي والمعنوي، ينظر، ص 19 وما بعدها ) وما يجعل من هذه اللفظة تنحى هذا المنحى هو مجيؤها بصيغة الجمع المحلى بـ( أل التعريفية ) التي تفيد هنا الاستغراق.

وهذا ما سيدفع به الشيرازي رأي البعض الخاطئ إلى أن لفظة الأمانات لا تشتمل على الحكومة منتفعا من بعض الروايات المنسوبة لأهل البيت ( عليهم السلام ) ومستثمرا قرينة السياق القرآني ذاته في هذه الأيةالتي كانت محل اختلاف بين ذوي الشأن باحتمال اشتمال لفظة ( الأمانات ) فيها على ( الحكومة - الحاكمين ) واختصاصها فيها بدليل كون الأمر الوارد هو للحكام دون غيرهم ( وإذا حكمتم ) وبين احتمال عدم دخول الحاكمين أو ( السلطة ) في ما يمكن أن تشتمل عليه اللفظة.

وبعد ان يسرد السيد الشيرازي مجموعة من الأدلة ( الروائيّة والواقعيّة ) التي تفيد عمومية الآية وشموليتها وبالتالي انطباقها على كل مأمور – مهما كان موقعه الاجتماعي والوظيفي – تتاحله فرصة أن يكون مسؤولا عن أمر ما، كبر أو صغر، يستنتج أن الأمر الإلهي المذكور ( يدلّ بالدلالة الالتزاميّة العرفيّة على تشريع حقّ رقابة الناس على الحاكم، ص 26 )  وذلك قياسا بآية النفر إذ يقول جلّ شأنه: ( وما كان المؤمنون لينفرو كافة، فلولا نفر من كلّ فرقة منهم طائفةٌ ليتفقهوا في الدين، ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون ) حيث يفهم من هذه الآية أن الله: ( لو أمر أحدهم أن ينذر الآخرين، فإنّ ممّا يلزمه على المنذَرين مطاوعة الإنذار وقبوله، ص 27 ) أي أنّه – سبحانه وتعالى – مثلما شرّع الالتزام بأداء الأمانة على أحسن وجه عندما تُوكل إلى الحكّام، فإنّه قد شرّع حقّ الرقابة للناس أي ( للمحكومين ) على الحكّام ليروا مدى التزامهم بهذه المسؤولية الجليلة والجسيمة، وبعبرة أخرى، وكما يعبّر الشيرازي بالقول: ( إن الشارع لو لم يشرّع حق الناس في الرقابة على المؤتمن كي لا يفرّط بحقّهم، فإنّ ذلك يستلزم الإيقاع في الغرر وفي الضرر، ولا ضرَر ولا ضرار في الإسلام، ص 27 )، وهو ما سيقود حتما طرفي المعادلة ( الحاكم / المحكوم ) صوب منطقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي يشترط العلامة الشيرازي الرقابة على طرفها الأول ( الحاكم ) لدفعه صوب المنطقة المذكورة التي تمثّل غاية من غايات الوجود الإنساني، وهو ما حاول الإسلام بوصفه دينا عمليّا وواقعيّا أن يكرّس لها في صياغاته المفهومية وفي تطبيقاته اليوميّة، وهو ما لا يمكن أن يتمّ إلّا بوجود الدولة ( الحكومة ) بوصفها الجهة أو المؤسَسة أو التنظيم الاجتماعي القادر على أن تجسّد المثل العليا للبشر، وأن تسعى لتحقيق رغباتهم ومطامحهم في عيش رغيد وعادل.

في حين يضع السيد الشيرازي في المبحث الثاني من الفصل الأول ذاتهسؤالا غاية في الأهميّة الخطورة، وهو سؤال ينبثق من التصوّر الكلي الذي تؤطره الآية المذكورة ويتعلّق بتحديد الجهة التي تمثّل المصدر الذي تنبثق منه شرعيّة السلطة، أهي الله سبحانه وتعالى، أم هي الشعب، أم كلاهما؟

وقبل أن يحدّد السيّد الشيرازي المصدر الفعلي للتشريع يقف عند مجموعة من الأطر القانونيّة بين الحاكم والمحكوم بغض النظر عن طبيعة الصيغة التي تنظم هذه العلاقة، ويجد الشيرازي أن هذه الأطر لا تعدو أن تكون إلّا واحدا من ستة أمور هي بمثابة الاحتمالات، وكالآتي:

الوكالة: وفيها يكون الحاكم بمثابة الوكيل عن الشعب في تمشية أموره والنهوض بالمصالح العامة.

الإذن: أي أن يأذن الشعب للحاكم بمجموعة تصرّفات يرى فيها الخير والصلاح له.

الإجارة: أي أن العلاقة التي تربط الطرفين هي علاقة ( إجارة) يكون فيها الحاكم أجيرا براتب معيّن لفترة محدّدة.

العقد الجديد (المستأنف): وهي صيغة قانونيّة تربط بين الطرفين لا تشبه الإجارة ولا الوكالة ولا الإذن، ولا الجعالة وإنما هو عقد مستأنف يمكن الالتزام به بصورة من الصور، ينظر، ص 31 .

الولاية: وهي علاقة أخرى فيها تسليط ولائي اعتباري من جهة أو مصدر خارجيّ ( كالشارع الأقدس) أو من مصدر داخلي ( المحكومين- الشعب )، وهي تختلف عن الوكالة مثلا - بحسب الشيرازي- من ناحية كونها ولائيّة اعتبارية .

التفويض: وهو لون من العلاقة ( يدّعي ) فيه الحاكم ( الطاغية خصوصا ) تفويض الناس أمرهم للحاكم فيمارس الأخير سلطته المستبدة، وقد يدعي الحاكم التفويض المباشر من الله سبحانه وتعالى .

ولعلّ السيّد الشيرازي، وهو يضع هذه المجموعة من الاحتمالات أو الكيفيّات التي من الممكن أن تضبط علاقة الحكّام بالمحكومين يريد أن يضع أيدينا فيما بعد على أيٍّ من هذه الكيفيّات هو الأقرب بطبيعته إلى التصوّر الإسلامي الذي حاول تقنين هذه العلاقة وضبْطَها لئلّا تنفلت، وهو ما سيحاول السيّد بحثه واستقصاءه في مباحث لاحقة سنعرض لها في حينه ..

أما المبحث الثالث من الفصل الأول ذاته فقد خصّصه العلامة الشيرازي لمجموعة من الأسئلة الفقهيّة ذات الصلة بالموضوع الأساس..

وقد كان السؤال الاول يستفهم عن إمكانية وجود حقوق للسجين على وفق الفهم الإسلامي، وما هي طبيعة هذه الحقوق؟

إذ يرى العلامة مرتضى الشيرازي أن كثيرا من الدول، مستبدة كانت أم ديمقراطيّة قد هضمت هذا الحق وسحقته دون وازع إنساني او قانون يحمي حق هذا الإنسان الذي قد يقاد للجنحة دون إرادة منه أو رغبة في بعض الأحيان، ويستنير السيد مرتضى الشيرازي بآراء والده المرحوم العلامة محمد بن المهدي الحسيني الشيرازي( قدس سرّه ) مشيرا إلى كتابيه ( موسوعة الفقه، وكتاب حقوق السجين في الإسلام ) للتوسع والاستزادة منتهيا إلى أن من حقوق السجين أمور كثيرة أهمها ما يأتي:

  • حق العمل بحرية

وهو من الحقوق المغموطة في أغلب الدول - كما يذهب السيد الشيرازي - وإن توفير العمل للسجين بما يناسب تخصصه خارج السجن، أي في الحياة العامة جدير بأن يحافظ على كفاءة السجين ليمارس دوره في بناء الحياة بعد الخروج من السجن وهو ما سيسهم في الدفع بعجلة اقتصاد البلد، ولذا يقترح السيد الشيرازي أن تلتزم الدول الإسلاميّة بـ ( بتهيئة الدراسات وإعداد التصاميم والمخططات الهندسية لبناء السجون بحيث تستوعب هذه الحقوق، ص 37 )

  • حق الالتقاء بأهله يوميّا

إذ يستنكر السيد الشيرازي على بعض الدول الدكتاتورية أن يمضي السجين عاما كاملا في غياهب السجون دون أن يرى أحدا من أهله، ويرى ضرورة أن تقوم الدولة الإسلامية ببناء غرف داخلية تسمح لذوي السجين بالمبيت، وذلك أسوة بما كان يصنعه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) حين كان يسمح بخروج السجناء إلى بيوتهم أيام الجمعة( ينظر ، ص 38 ) وإن مراعاة هذه الشروط ستحدّ من عملية هروب السجناء، وستريح أعصاب أهله وذويه مما تدفعهم إلى العمل والإبداع لخدمة أوطانهم والسعي من أجل الارتقاء بها اقتصاديا ونفسيا واجتماعيا ..

وسنعرض –بإذن الله – في المقال القادم للفصل الثاني من هذا الكتاب، وهو الفصل المعنون ( الأمانة والأطر القانونيّة في العلاقة بين الدولة والشعب ).