!الخارجون عن النسق.. الحق مخاطباً القوة

الدكتور هاشم الموسوي

إدورد سعيد: (أنا أرد على المستشرقين بوصفي شرقياً من خلال تفكيك بنية مادتهم العلمية من خلال الكشف عن تحيزها الماوراء التاريخي، والمؤسساتي والأيدولوجي، المعادي للتجريبية، ولذلك أشعر أني أكتب لأبناء وطني وزملائي حول أمور ذات اهتمام مشترك)

ظلّت مئات الصور المزيفة والمقيتة التي اختزلتها أقلام المستشرقين عبر العصور الطويلة عن العرب والمسلمين تتردد ويعاد صقلها في أصداء العالم وفي كل الأجهزة الإعلامية، التي لا تتوانى في الترويج لإشاعة هذه الصور دون تمحيص أو تدقيق أو حتى مراعاة لمشاعر الناس، الذين ترسم عنهم هذه الصور وهم يعلمون قبل غيرهم أنها مجرد صور أريد منها قلب الحقيقة وتضليل الناس.

ومع مجيء المفكر الكبير (إدورد سعيد) أصبح للاستشراق نسقاً معروفاً ولكنه نسق معرى من الأكاذيب والتلفيقات التي كان الاستشراق يخفيها جاهدا من أجل التمويه على كل نشاطاته ذات النزعة السلطوية التي تسعى إلى الهيمنة وبسط نفوذ المؤسسات العسكرية الغربية وللرؤية الداعمة لها، وذلك بعد أن تحدث سعيد في كتبه العديدة عن افتراضات العالم الغربي الموهومة والتي أفضت إلى سوء فهم خاص بالشرق وإلى سوء تأويل رموز حضارة الشرق المسلم، وخصوصًا حضارة الشرق الأوسط.

وُلد إدوارد سعيد عام 1935 في فلسطين من أبوين مسيحيين في مدينة القدس قبل أن يحتلها الصهاينة الغاصبون، وقد رحل والداه للولايات المتحدة في أربعينيات القرن الماضي مما منحهم الجنسية الأمريكية، وقد درس (إدورد سعيد) في مدرسة القديس جورج الأنجليكانية عام 1947، ثم في كلية فيكتوريا في مصر، ثم درس بعدها في ولاية ماستشوستس، حيث تفوق أكاديميّا وعرف بنبوغه واجتهاده، وقد التحق سعيد بجامعة برينستون وحصل على شهادة البكالوريوس في الفنون عام 1957 وماجستير بالفنون عام 1960، وفي عام 1964 حصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة في الأدب الإنجليزي من جامعة هارفارد، وظل منذ ذلك الوقت يشتغل على مفهوم الاستشراق ومعرفة نواياه ودوافعه الخفية والحقيقية.

يرتكز مفهوم سعيد للاستشراق على مبدأ أنه حركةً منظمةً مرتبطة بالنشاط الاستعماري بدأت مع أواخر القرن الثامن عشر، وطيلة القرن التاسع عشر، ولم تكن حركة الاستشراق نتيجةً لحب الاستطلاع وحب التعرف على طباع أهل الشرق ومعارفهم وعاداتهم وثقافتهم التاريخية البعيدة والمعاصرة، ولكن من أجل الاستعمار ونهب الثروات بقوة الطائرات والمدافع والدبابات، ومن أجل إثبات التفوق الغربي ومحو الثقافات الأخرى المختلفة بحجة التبشير الديني بالمسيحية التي كانت من أولى أولوياتها إشاعة المحبة والتسامح لا القتل والتهجير والاغتصاب للحقوق.

وعليه فالمدونات الاستشراقية التي نشطت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر قدمت صورةً اختزاليةً عن الشرق ثقافةً ومجتمعاً، صورةً توافق الرؤية التي ينتظرها الغربيون وتستجيب لتصوراتهم النمطية عنه، وتفاعل الخطاب الاستعماري والصورة الرغبوية الاستشراقية في استبعاد الأشكال الحقيقية وذمها، وبها اُستُبدلت أشكالٌ أخرى توافق تصوراتها .

وقد تفاعلت ضمن خطاب ادورد سعيد كثير من المفاهيم والمعارف والمناهج التي ثقفها، فالرجل شرقي أصلا وينتمي إلى أرض الديانات الثلاث، فضلا عن كون صاحبه تلقى المعارف الغربية ومناهج العلوم الحديثة التي تتيح له مخاطبة الغرب ومحاججتهم باللغة التي ينتبهون إليه من خلالها، وهذا ما جعل من خطابه خطابا مسموعا في الدوائر الغربية المسؤولة، ويذكر سعيد في أحد كتبه عن هذا الخصوص قائلا: ( أنا أرد على المستشرقين بوصفي شرقياً من خلال تفكيك بنية مادتهم العلمية من خلال الكشف عن تحيزها الماوراء التاريخي، والمؤسساتي والأيدولوجي، المعادي للتجريبية، ولذلك أشعر أني أكتب لأبناء وطني وزملائي حول أمور ذات اهتمام مشترك).

ويتفطن ادورد سعيد الى التفات بعض مثقفي الغرب وبعض دوائره الثقافية الى الحيل التي ينطوي عليها الاستشراق كمؤسسة مرتبطة بأيديولوجيا الهيمنة الغربية التي ترفض وسائلها بعض النخب الأوربية المثقفة وتقف بالضد منها، وبالتالي فظاهرة الاستشراق ليست رمزا مصغرا للغرب في صراعه مع الحضارات الأخرى، وليس الغربيون كلهم أعداء للعرب والمسلمين لان منهم ومن المستشرقين خصوصا من غير ثقافته ودان بالاسلام بعد أن اطلع على تفاصيل هذا الدين وتعاليمه ونصوصه عن كثب. وبالقدر نفسه لا يمكن التهاون فيما أوصل الغرب الى هذه القناعات المتحيزة حول الشرق بفعل الأثر الاستشراقي الذي استطاع أن يقلب الحق باطلا وان يقلب الصورة بما يخدم مطامع سياسية واستعمارية حان الوقت لكي تنفضح وتنكشف وتتوقف.

وبما ان ادورد سعيد يربط تاريخ نشوء النشاط الاستشراقي الحديث الذي ظهر قبل قرنين من الزمان بالاستعمار او بالتواطؤ مع السلطة الامبريالية معريا بذلك نوايا هذا النشاط وكاشفا عن وجه الاستشراق الامبريالي القبيح، فهو قد منح بعض المشتغلين بالدوائر الاستشراقية فرصة أن يكونوا أعداء انفعاليين لدوافع سعيد المعرفية، بمن فيهم الاساتذة الاكاديميين في الجامعات الامريكية والاوربية ولا سيما المرتبطين منهم بالدوائر الصهيونية والمنافحين عن حق اسرائيل بوجودها اللاشرعي، ولعل الطريقة التي عومل فيها سعيد داخل اروقة الجامعة واضطراره لاستدعاء الشرطة لحمايته من قبل الطلبة المتعصبين وذويهم من المتشددين والمعادين للآخرين من غير ذوي الجنس الأبيض، أو حتى في الطريقة الغامضة التي لقي فيها سعيد حتفه بعد اصابته بمرض (اللوكيميا) أكثر من دليل على أن أدورد سعيد دفع ثمن وقوفه موقف أخلاقي وعلمي لا يرضي أهل القوة والجبروت من الأشرار الذين لا يريدون في هذه الأرض إلا علوا وجبروتا...