أدعية أهل البيت عليهم السلام موضوعاً للدراسات النصيّة

د. علي ياسين

تهدف الدراسات اللغوية والنقدية الجادة إلى إحداث نقلة تميّز وتفرّد عبر ما يمكن أن تصل إليه نواتج هذه الدراسات من كشف وإظهار لما تنطوي عليه النصوص العالية بمختلف تشكّلاتها اللغوية ودوالها النصيّة التي تقيم نسقها الأدبي الخاص والذي لا يمكن الاقتراب من ضفافه البعيدة ما لم يمتلك الدارس منهجا منتظما ومستوعبا لجملة من المقولات النظرية لعلوم اللغة الحديثة، وما نجم عن توسلاتها بالعلوم الإنسانية الأخرى التي قطعت شوطا كبيرا من الضبط المعرفي الصارم في العصور الحديثة. 

  ويأتي كتاب الدكتور عباس عبد السادة الموسوم: ( أدعية أهل البيت ، دراسة في تحليل الخطاب) الذي كان بالأصل أطروحة للدكتوراه كتبت في كلية التربية بجامعة البصرة تحت إشراف الأستاذ الدكتور (حسين عودة هاشم) ضمن السياق المشار إليه في هذا المقال المنوّه بالقيمة العلمية التي ينضوي عليها الكتاب المذكور المشتمل على تمهيد وثلاثة فصول، وقد حدد الباحث من خلاله تمهيده مفهوم (الخطاب) انطلاقا من كونه بنية تواصلية (ذات معنى تسعى الى التأثير في متلق ما عن طريق التواصل اللغوي وغير اللغوي .. ص29) أما (تحليل الخطاب) الذي اتخذه مدخلا  أو منهجا لقراءة مجموعة الأبعاد الجمالية والنصية القابعة في المكونات اللغوية والتعبيريّة لأدعية أهل البيت (عليهم السلام) فقد اكتفى الباحث بقوله عنه : (هو خليط من أهداف وآليات المناهج اللغوية والنقدية للوقوف على مقاصد الخطاب وجمالياته معا.. ص32) .

وبما أن هاجس الدارسين المعوّلين على منهج (تحليل الخطاب) وأسئلتهم العلمية تنطلق من رغبات عديدة تسعى إلى فهم المجتمع الذي أنتج النصوص اللغوية، والوقوف على هموم المحيط الاجتماعي المرتبط بهذه النصوص؛ لذا حاولت هذه الدراسة الوصول إلى  إجابة عن مجموعة أسئلة منها: هل أن الخطابات تشكل جزءا من البناء الاجتماعي للواقع المضمّن داخل نسيج هذه الخطابات، ومن هذه الأسئلة –أيضا- سؤال ما الذي صنعه المتحدث باللغة حتى أوصلها إلى هذا المستوى المؤثّر من خلال نمط معين من التعبير النثري الذي تؤطره طقوس التعبد والقداسة والتوجه لله بكل خشية وإخلاص، وهو الخطاب الدعائي عند أهل البيت الذي انتفى منه الباحث عينة للدراسة أربعة نماذج للمعالجة النصيّة، هي: ( دعاء كميل المروي عن الإمام علي (ع) ودعاء عرفة المنسوب للإمام الحسين ودعاء أبي حمزة الثمالي للإمام السجاد، وهو من أدعية الأسحار المعروفة في ليالي رمضان ، وأخيرا دعاء الإمام المهدي المعروف بدعاء الافتتاح).

وهو ما يقود إلى حقيقة أن التوظيف الفني والجمالي للغة في كل نشاط من أنشطة الحياة سيسهم في صناعة الرؤى والتصورات الخاصة بالعالم المحيط بمنتجي النصوص على اختلافها، ومنها نصوص الأدعية (صحيحة السند) والمنسوبة لأهل البيت (عليهم السلام)، والمحكومة كغيرها من النصوص الأخرى بمعايير نصيّة معروفة، هي: ( الاتساق والانسجام والتناص) فضلا عن معايير أخرى ترتبط بمتلقي الأدعيّة كالمقبولية ورعاية الموقف، وهما ذوا طبيعة تداولية، وهناك معياران آخران ذاتيان هما القصدية، وهي: معيار يرتبط بوعي المتكلم وإرادته الخاصة، والإعلامية، وهي: معيار يرتبط بما لا يتوقعه السامع من الخطاب، والسامع –هنا- هو الإنسان لا الله بطبيعة الحال.

وبعد ان تثبت الدراسة خطابية أدعية أهل البيت تنحو منحى إخضاع الأدعية لمبادئ تحليل الخطاب على وفق أربعة قوانين او مبادئ هي (قانون السياق وقانون التأدّب وقانون الاقتضاء وقانون المجاز) وهي أمور  أجهد الباحث نفسه كي يقبض على القوانين الداخلية التي تمكنه من وصف لغة الأدعية بوصفها لغة نثرية ذات طابع إبلاغي-بلاغي، ما دام المنطلق الطبيعي والمعقول للعمل في البحث اللغوي هو وصف النصوص ذاتها وتحليلها، وهي تتشكل قياسا إلى درجات التفاعل التي تميزها من أجل إحداث التأثير وتعميم القناعات وتعزيزها عند المتلقين في أزمنة وأمكنة مختلفة.

ولعلّ ما يميز هذه الأطروحة هو أنها لم تكتف بوجوب رصّ مجموعة من المقولات النظرية داخل حيّز التأسيس، وإنما سعت إلى توازن التوزيع بين المقولات النظرية وتجسداتها النصيّة عبر نصوص الأدعية وتراكيبها المختلفة، وفي آخر فصول البحث تقف الدراسة عند الوظيفة التي يضطلع بها النص الدعائي، وهي وظيفة لا يمكن أن تتوقف عند المنفعة والإمتاع، وما ينجم عنهما من تفريعات تتعلق بهاتين المسألتين اللتين جرت العادة على وصفهما بكونهما تمثلان جوهر الوظائف التي تنطوي عليها النصوص العالية، إذ قد تخرج نصوص الأدعية إلى وظائف وغايات أخرى منها : الوعظيّة والتذكيرية والتعليمية، فأهل البيت (عليهم السلام) منارات هداية ترشد الناس إلى سواء السبيل عند اشتداد الحلك في الليل البهيم، وهم معلّمون من طراز فريد لا تنفصل المعرفة عندهم عن غاياتها الربانية التي تنظر للإنسان على أنه كائن خلق ليجسد وجوده الإنساني المنطوي على إقراره بالعبودية لرب عظيم سيقف يوما بين يديه صاغرا ضعيفا...