إشراقات في مولد النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)
د.الشيخ عماد الكاظمي
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الحديث عن ولادة النبي الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) إنَّما يعني الحديث -واقعًا- عن أعظم آيات الله تعالى في الوجود وأشرفها، والحديث عنه هو الحديث عن ولادة نور سيطفىء ظلمات الدنيا الغارقة بالجهل، والظلم، والانحراف وغيرها من الظلمات المادية والمعنوية، وهو حديث عن حرية العقيدة وسموِّها، بل حديث عن مكارم الأخلاق التي تجلت فيه بأعظم صورها، فكان أعجوبة زمانه وما بعده، بل أعجوبة التكامل الإنساني، فقال فيه عز وجل: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيْمٍ﴾ ، ولو أردنا الحديث عن سيرته الشريفة المباركة فلا تسعها صفحات ومجلدات، بل نحاول في هذه السطور أنْ نستشرف من إشراقاته العظيمة الخالدة، التي رافقت مرحلة محددة من مراحل حياته (صلى الله عليه وآله وسلم).
• الولادة الميمونة.
إنَّ أغلب أهل السير والتأريخ قد ذكروا أنَّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وُلِدَ في شهر ربيع الأول من عام الفيل، وهو العام الذي تعرَّضَ رمز توحيد البشرية إلى هجمة شرسة من قبل أبرهة الحبشي، قاصدًا هدم الكعبة المشرفة، فباءت حملتهم بفشل كبير، بعد نصر الله تعالى لبيته .. ولكنهم ﭐختلفوا في تحديد اليوم الذي وُلِد فيه على أقوال متعددة , ومن أشهرها هو السابع عشر منه، وكان في ولادته سرور عظيم قد عَمَّ بيت جده عبد المطلب (عليه السلام)؛ لأنَّهُ ولد وهو فاقد لأبيه عبد الله (عليه السلام)، وما في ذلك من آثار معنوية تمر بها الأم، وهي لا ترى بجانبها زوجها، ليشتركا الفرحة بمولودهما، وخصوصًا لمن له شأنُ عظيم، فقد روي أنَّ أمه آمنة (عليها السلام) أرسلت إلى جده عبد المطلب أنَّهُ قد وُلِدَ لك غلامٌ فأتِهِ فانظر إليه، وحَدَّثته بما رأت حين حملِها به، وما قيل لها فيه، فأخذه عبد المطلب فدخل به الكعبة، فقام يدعو الله، ويشكر له ما أعطاه، ثم خرج به على أمه فدفعه إليها، وﭐلتمس له الرُّضَعاء.
إنَّ هذه السطور التي وردت في إشراقته (صلى الله عليه وآله وسلم) على الدنيا تبيِّنُ عظمة الاعتناء به من قبل أهل بيته، وما ورد عليهم من فرح وسرور بولادته، وأضاف علليه من حنان ولطف بفقده لأبيه الذي كانت له منزلة خاصة عند أبيه عبد المطلب (عليهما السلام)، حين فداه من الذبح في قصة يطول شرحها، وإذا بعبد المطلب يرى اليوم محمدًا وهو قطعة من ولده الذي فقده بين يديه يتلألؤ النور في جبينه، ويسمع إلى الآيات الباهرات التي رافقت ولادته، فهي إشراقة جديدة من إشراقات التأريخ الذي سيعم بيت الإيمان والتوحيد لعبد المطلب.
• آيات ولادته الشريفة.
لقد رافقت يوم ولادة النبي المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) آيات وأحداث متعددة توحي إلى التأمل والتفكر في هذا المولود، وما سيحدث الله على يديه، إذ ورد في ذلك أنَّهُ ﭐنطفأت نار فارس، وتساقطت الأصنام التي كانت منصوبة في الكعبة على وجوهها، وزلزال أصاب الناس، فتهدَّم كُلُّ شيء يُعبد من دون الله تعالى وغير ذلك من حوادث أخرى.
فإنَّ هذه الوقائع التي حدثت لا يمكن أنْ يكون تفسيرها صدفة، أو بسبب ماديٍّ معيَّنٍ قد حدث فأدى إلى ذلك، أو إنكارها جملة، أو غير ذلك من مبررات تدفع كرامة إقبال هذا المولود على عالم الدنيا، ولو أنَّنا نظرنا نظرة أولية عامة إلى ما حدث لرأينا أنَّها تصب في سبب وهدف واحد لا غير، وهو إظهار آيات تدل على زوال مظاهر الوثنية والعبودية لغير المعبود الحقيقي وهو الله تعالى، فكُلُّ معبود من دون الله قد أصابه اليوم الهلع والخوف الشديدَيْن، وتصدع بولادته المادية الشريفة، وفي ذلك بشارة وإنذار بحقيقة الولادة المعنوية التي ستراها البشرية بعد هذا اليوم، حيث الأمم على مذاهب شتى في عبوديتها، وأنانيتها، وغرورها، فجاءت البشارة الإلهية بخلاصها من كُلِّ ذلك، فالأمة كما وصفها أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: ((أَرْسَلَهُ عَلَى حِيْنِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وَطُوْلِ هَجْعَةٍ مِنَ الأُمَمِ، وَﭐعْتِزَامٍ مِنَ الْفِتَنِ، وَﭐنْتِشَارٍ مِنَ الْأُمُورِ، وَتَلَظٍّ مِنَ الْحُرُوْبِ، وَالدُّنْيَا كَاسِفَةُ النُّوْرِ، ظَاهِرَةُ الْغُرُوْرِ، عَلَى حِيْنِ ﭐصْفِرَارٍ مِنْ وَرَقِهَا، وَإِيَاسٍ مِنْ ثَمَرِهَا، وَﭐغْوِرَارٍ مِنْ مَائِهَا، قَدْ دُرِسَتْ مَنَارُ الْهُدَى، وَظَهَرَتْ أَعْلامُ الرَّدَى، فَهِيَ مُتَجَهِّمَةٌ لِأَهْلِهَا، عَابِسَةٌ فِيْ وَجْهِ طَالِبِهَا، ثَمَرُهَا الْفِتْنَةُ، وَطَعَامُهَا الْجِيْفَةُ، وَشِعَارُهَا الْخَوْفُ، وَدِثَارُهَا السَّيْفُ)) ، فهذا هو حال الأمة التي وُلِدَ فيها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأشرقت أنواره لتهدم أركان الكفر والطغيان، والظلم والعدوان، وتبشر بحياة يسودها الإيمان والقرآن، والعدل والإحسان، فتحققت الفرحة بولادته الميمونة التي عَمَّت يومها في بيت عبد المطلب لتنتقل إلى ربوع مكة، بل إلى ربوع أقطار الدنيا، ليصبح يوم ميلاده يوم ميلاد الإنسانية كلها، وما تنطوي فيه من معاني الإنسانية والسمو.
اسمه الشريف
إنَّ كُلَّ مولود قبل أنْ يولد يفكِّرُ أبواه في ﭐختيار ﭐسم له، فيكون الاسم أول شيء يراودهما، ولكن هذا المولود سيولد من أُمٍّ حيث لا زوج لها تتبادل الفرحة معه، وتنافسه في تسمية ﭐبنها، بل إنَّ مع فرحتها دمعة فراق أبيه وهو شاب قد فارقها، وهي تحمل في بطنها أعظم مخلوق في الوجود، وعلى كُلِّ حالٍ فقد روي أنَّ جده عبد المطلب قد سمَّاه "محمد" ليُحمد في السماء والأرض، وأنَّ أمَّه آمنة قد سَمَّته "أحمد"، ولكن القرآن الذي لا ينطق عن الهوى قد صرَّح باسمه الشريف المبارك على لسان نبيه عيسى (عليه السلام) بقوله: ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي ﭐسْمُهُ أَحْمَدُ﴾، وفي ذلك إشارة إلى أنَّ هذا الوليد قد سَمَّاه الله تعالى، وأشار إلى صفته الشريفة الخاصة بالحمد، وفي ذلك كمال العناية الإلهية به، في ﭐرتقاب البشرية ولادته الميمونة، وفي ﭐسمه الشريف دلالة واضحة على علاقته التكوينية بالله تعالى، فالحمد أعظم طاعة يتقرب العبد بها إلى ربه، وهي عنوان العبودية والإذعان من قبل المخلوق إلى خالقه، فكان كما أراد الله تعالى له أحمد الأوصاف والأخلاق، وأحمد التفكير والوجدان، وأحمد التأمل في عبادة الله تعالى بين قوم عاكفون على أحجار بائسة ﭐتخذوها إلهًا لهم، فكانت خصال الحمد تأبى له أنْ يعبد غير المحمود الحقيقي، المنعم عليه بالوجود، فتشرفت الدنيا باسمه المبارك، وصار عنوانًا للفخر والشرف، وأصبح ﭐسمه تتداوله الألسن بينها في المحامد كُلِّها، حتى غدا عنوان الصلاة عليه من الله تعالى وملائكته، وفرضًا على العباد بطاعته، فقال تعالى تعظيمًا لمقامه وكرامته: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ , وهذا شرف آخر مما شرَّف الله تعالى حبيبه الأحمد المحمود في الأرض والسماء.
• نشأته المباركة.
إنَّ نشأته المباركة (صلى الله عليه وآله وسلم) فيها من الدروس والعبر الكثيرة، والتي ينبغي أنْ تكون عبرة لنا في التربية والتنشئة لأجيالنا، لنصل بهم إلى ساحة البر والأمان والاطمئنان، فقد وُلِد النبي يتيمًا، وهل يشكُّ أحدٌ في صعوبة تنشئة اليتيم بين أحضان أمه، فالأم مهما بلغت مبلغ الكمال فيحتاج الوليد إلى أبيه ليُكْمِلَ له جناحيه اللذين إليهما يأوي، ولكنَّ محمدًا فتح عينيه وهو فاقد لأحد جناحيه اللتين يأوي إليهما، وفي وجه أمه الطاهرة آثار الأسى على فقد زوجها في أسعد ساعة تمر عليها، وبعد سنوات قصيرة ست من عمره الشريف يُفجع بفقدها كذلك، فأصبح حاله إذ لا أب يناديه "أبتاه"!! ولا أم يلوذ بحنانها فينادي "أماه"!! وهو يرى أقرانه من الأولاد بين أحضان أبويهم، ولكن شاء الله له ذلك أنْ يولد محمد وهو يتحسس معنى الأبوة وحرمان حنانها ورعايتها؛ ليكون بعد أيام الأب الحقيقي للبشرية كُلِّها، فيمنحهم العطف والحنان الذي كان قد فقده يومًا قبل أنْ يعوِّضه بأضعاف ذلك، فلم يُترك محمد يتيمًا يتلوَّعُ آلام اليُتم والحرمان، بل هيَّأ له أشرف الكافلين له؛ ليكونوا له المأوى الذي أعده الله له، فكفله جده "عبد المطلب" وهو من أشراف أهل الأرض، ولكنه فُجِع مرةً ثالثة بفقده بعد سنوات ثمان، فهيَّأ الله له عمه "أبو طالب" وهو سيد قريش وعظيمها، فكانت آلاء الله تتوالى عليه في ذلك، وكما قال عز وجل: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى﴾ فكان مأواه الجديد أعظم مأوًى يلجأ إليه فيعوِّضه ما قد فقده، فرعاه عمه رعاية لا نظير لها، بل سجَّل أروع الأمثلة في ذلك، فانتقل محمد في بيت يسوده الحب العميق له، وينشد لحنه باسمه، ويردده على وجَلٍ خوف أنْ يُحسدوا عليه، فرأى فيه أمه "فاطمة بنت أسد"، ورأى فيه أباه "أبو طالب"، وهما يتنافسان على محبته وحنانه ورعايته، ويقدمانه على أبنائهما، ويحافظان عليه كما يحافظان على أعينهما، ويلهجان باسمه فخرًا وسرورًا، فرأى النبي فيهما ما لم يره من قبل، وأحس فيها معنى الأبوة التي فقدها في أيامه الأولى، فآثره سيد البطحاء عمه على أولاده، وتعهد تربيته وتنشئته ليكون محمدًا الذي تفخر قريش به وبأخلاقه وأمانته، وليغدو خير شاب تنظر الناس إليه بين أقرانه، فصار عنوانه الذي يُعرف به هو "الصادق الأمين"، ولما ﭐكتمل عمره في شبابه وهو حديث المخدرات باسمه وأوصافه وألقابه، زوجه عمه أعظمهن شرفًا، وسؤددًا، ومكانة، سيدة في قومها، عزيزة في حَسَبِها، كريمة بمالها، إنَّها سيدة نساء قومها "خديجة بنت خويلد"، فتزوجها وهو بين أبويه الكريمين اللذين أبدلهما الله له "أبو طالب وفاطمة"، ليرى في عينهما فرح وسرور أمه وأبيه "عبد الله وآمنة" فتبدأ صفحة جديدة من صفحات حياته الشريفة المباركة، فجزى الله "أبا طالب" جزاء بما يليق بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
فسلام عليه يوم ولد، ويوم رحل عن الدنيا، ويوم يبعث حيًّا ليكون لنا الشفيع الأعظم، فنفخر باسمه وبوجوده بين الخلائق كلها .. وإلى لقاء آخر مع إشراقة من إشراقاته صلوات الله وسلامه عليه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته