مفهوم الفردانيّة في الاسلام.. من الفوضى الى التقنين

جلال عبد الحسن

اختلف الدارسون والمتابعون للفلسفة الإسلامية حول وجود مفهوم (للفردانية) في الإسلام حيث ذهب البعض إلى نكران وجود مقولة للفردانية في الإسلام، رابطين هذا المفهوم بالحداثة الأوربية الغربية وإن الاسلام بكل مراحله الحضارية ابتداء من عصر الرسالة وانتهاء بمرحلة التصوف الإيراني يخلو من وجود حقيقي لهذا المفهوم، بينما راح البعض الآخر يثبت هذا المفهوم ومقولاته بدليل وروده في التنزيل العزيز (5 مرات) وبدليل وجوده في النحو العربي وفي الفلسفة الاسلامية ومفاصل الحياة الفكرية الأخرى..

وقبل الحديث عن الحكم بهذا الوجود أو عدمه علينا أن نلقي الضوء على أبعاد هذا المفهوم أولا، فالفردانية باختصار شديد هي: استناد قرارات الفرد على منفعته ومتعته الشخصية الخاصة على أساس أن هذا الفرد هو مركز الاهتمام الرئيسي في الكون، أي أن مصالحه الشخصية تتحقق فوق اعتبارات الدولة وتأثيرات المجتمع والدين، وبمعنى من المعاني فإن هذه الفردانية قد تناقض (الجماعية)من حيث هي السمة التي تتميز بها المجتمعات الإسلامية إلى حدٍ كبير.

وفي القرن التاسع عشر (قرن الصناعة والغزو والتحديث) ظهرت الفرادنية بشكل واضح في المجتمعات الغربية، وانتشرت ابتداء من ألمانيا وإنجلترا التي تعاملت معها من منطلق اقتصادي، ثم أمريكا التي اعتمدت عليها مع القيم الاجتماعية والسياسية الجديدة مثل الديمقراطية والرأسمالية، ولا شك أن ظهور الرأسمالية أكد على أن الفرد هو صاحب المصلحة الأساسية، وهذا ما دعا إليه الفيلسوف آدم سميث بقوله: إن رفاهية المجتمع تتحقق عندما يسعى كل فرد إلى تحقيق غايته دون الرجوع الى السلطات أي كان نوعها!. ولم تعرف أوربا مفهوم الفردانية قبل القرن السابع عشر حيث أن أية عودة الى الأدبيات الأوربية قبل هذا القرن ستبين خلو هذه الأدبيات من هذا المفهوم الذي حددنا تعريفه باختصار، وقد نقل هذا المفهوم من ميادين أخرى إلى ميدان الحداثة السياسية ليدلل، بالتالي على مجموعة الخصائص المحددة لشيء ما ليكون له هوية ما تميّزه عن غيره.

وقد تأسس هذا المفهوم على يد الفيلسوف الأوربي (لايبنتز) ثم أضاف بعض فلاسفة العقل الأوربيين مثل (كانت) على الفردانية شروطا أخرى كالمسؤولية وأخلاقيات الواجب والحقوق، مما أدى إلى تحول (الفردانية) بالنتيجة إلى فلسفة أو منهج حياة يتبعه المعجبون والمؤيدون والمدافعون عن سننه وأصوله حتى لو تحول هذا المنهج إلى فوضىتهدد فضاء المجتمع برمته بما يضمر من دعوات واضحة للحرية الجنسية ولإذابة الفوارق بين الرجل والمرأة في عقد العلاقات بينهما أو بين أفراد كل جنس من هذين الجنسين، الذين فرقت البيولوجيا الطبيعية والأعراف السماوية بينهما، فضلا عن الفوضى الناجمة من تكدس رأس المال عند طبقة صغيرة تحتكره بأبشع الأساليب وتحرم الآخرين منه، مستغلّة إنسانيتهم وكرامتهم في سبيل الحصول على النزر القليل الذي لا يسمن ولا يشبع من جوع!

إنّ الفردانية، أو ّحق الانسان بالاستقلال والحرية الشخصية بعيدا عن سلطة المجتمع أو سلطة الدولة، أضحت اليوم من الحقّوق الأساسيّة في البلدان، وهي حقوق تسهم في إطلاق الطاقات الخلاقة بشكل يجعل الإنسان أكثر قدرة على الإبداع في ميادين الحياة المختلفة، وأن أي مجتمع لا يستطيع أن يصل إلى روح العصر بشكل كامل دون أن يقوم بتكريس الفردانية، وإشاعتها كنظام حياة في أوربا.

والسؤال هل عرف الاسلام حق الفرادة؟

الجواب أننا لو تفحّصنا مليارات البشر لا نجد بينهم شخصين متماثلين متشابهين تماماً، مما يعني أن حكمة لله اقتضت أن يكون لكل فرد خصائصه وميزاته، التي لا تتطابق مع أي فرد آخر في هذا الكون مما يعني ان التفرد واختلاف البشر عن بعضهم سنّة من سنن الخلق الكونية التي نجد لها في القرآن ما يدعمها بالنصوص الصريحة، يقول عز شأنه: ((وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ)).

ولما أقر الاسلام اختلاف الناس عن بعضهم فمعنى ذلك اقرار بفردانية كل واحد منهم ، لكنها ليست فردانية منفلتة، بل هي مسيجة بسياج (المسؤولية الفرديّة) التي لها ما يدعمها من داخل القرآن الكريم، منها قوله تعالى: ((ولا تزرُ وازرة وزرَ أخرى)) وقوله تعالى ((وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُوراً)) فالانسان فرد لكنه مسؤول عن أفعاله في الدنيا والآخرة، وإن سعيه موصل الى تباب أو رشاد بحسب ما اختار بإرادته الحرة أو بفردانيته.

إن أدبيات الإسلام ونصوصه المقدسة تركّز على مساحة واسعة لحريّة الفرد واستقلاله داخل المجتمع، لكنها حرية لا تنفي انفصام الفرد عن الجماعة التي يحيا ضمنها باستقلاليته، ولا ينفي كونه عضواً في الجماعة التي ينتمي إليها.

وأن احترام حقوق الفرد ينطلق أساساً في الاسلام من أنّه حقّ طبيعي من حقوق الإنسان بالحرية، وحاجته اليها للتفكير والابداع، دون أن يعني ذلك أن تكون هذه الحريّة متجرّدة من القيود كما هو حال الحرية الغربية المنفلتة ولكنها الحرية الخلاقة الحافظة لحقوق الفرد دون الإضرار بمنافع الآخر، الذي يشاطر الفرد الحياة ويقاسمها العيش الاجتماعي المشترك بالضرورة.