أبعاد الرسالة الاسلامية/ الجزء الثاني

 

* الباحث السيد عبد اللطيف المغربي

 

 إن الحديث عن الاسلام بكونه رسالة سماوية الى البشرية جمعاء يدفع بنا بلحاظ منطقي الى القول أن اهمية الرسالة التي تدّعي الاصلاح او التغيير سواء على الصعيد الاجتماعي ، السياسي ، التربوي أو الحضاري و الشمولي  تكمن من خلال رصد أمرين اثنين :                                   

 الاول: الأبعاد التي تنطوي عليها ومدى عقلانية وعقلائية تلك الابعاد وواقعيتها.                                                                          

 الثاني: مدى تناسب وسنخية تلك الابعاد مع  حاملها والداعي اليها.                  

فالرسالة الاسلامية هي الرسالة التي ارتضاها الله لعباده أجمعين،حيث  شملت جميع الكلمات الوجودية ،واستوعبت كل مجالات الحياة،وآفاق الآخرة.

ونظرا لهذه الخصوصيات والاهداف السامية كانت ولابد ان تكون أبعادها مناسبة ومتوافقة مع هذه الخصوصيات التي ميزتها عن كل الرسالات السماوية السابقة، والاطروحات الوضعية القديمة والجديدة، فامتازت الرسالة بأبعادها وكمال حاملها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حيث كانت السنخية بين الرسالة الكاملة والانسان الكامل.

 

تتمة البعد الانساني الوارد في الجزء الاول:

وتتجلى مجالات البعد الانساني في:                

أولا: تكريم الذات

    حيث نجد أنَّ تكريم الإنسان في القرآن جاء لأسباب موضوعية وليس من فراغ أو لرغبة إلهية دون مبرر، إنما هو تكريم لِذَاته الإنسانية لما تحمله من صور الكمال: (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ)  التغابن: 3، وتكريمٌ لِدَوره في إعمار الأرض: ( هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) هود: 61، فهذا التَّكريم هو اسم جامعٌ لكلِّ خصال الخَيْر والشَّرَف والفضائل.

ثانيًا: الإيجاد

    فإن من إكرام الله للإنسان أنْ أوجَدَه بعدما لم يكن شيئًا مذكورًا، ولا يُعرف له أثر؛ قال - عزَّ وجلَّ -: ( هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا )الإنسان:1. والمعنى أنه كان جسَدًا مصوَّرًا، ترابًا وطينًا، لا يُذْكَر ولا يُعرَف، ولا يُدْرَى ما اسْمُه؟ ولا ما يُراد به، ثُمَّ نَفَخ فيه الرُّوح فصار مذكورًاَ، أي ذا شأن يعتد به.

ثالثًا: خِلْقتُه على الفطرة

    فمن كرامة الإنسان أنْ خلَقَه الله مَجْبولاً على الإيمان؛ قال سبحانه: ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ )الروم: 30، ومعناه: أنَّه تعالى ساوى بين خلْقِه كلِّهم في الفطرة على الجبِلَّة المستقيمة، لا يُولَد أحدٌ إلاَّ على ذلك، ولا تَفاوُتَ بين الناس في ذلك..

   وزيادةً في تكريم الذات الإنسانية فإنَّ الإيمان بالله لا يكون وراثيًّا، ولا أمرًا مفروضًا, ولكن يكون بفِعْل إرادة فرديَّة حُرَّة، وهداية ربَّانيَّة نورانيَّة: ( وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ )الكهف: 29، ( لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) البقرة: 256، ( يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ) النور: 35

    وللتأكيد على الحُرِّية الإنسانيَّة التكريمية ورد في القرآن الكريم آياتٌ عديدة تُذَكِّر النبِيَّ - صلَّى الله عليه (وآله) وسلَّم - بِحُدوده الدَّعَوية، ومن هذه الآيات:( قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ )الأنعام: 104

( فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ) الزمر.41

(فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ * إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ)[الغاشية: 21.

 

رابعًا: الخلافة وإعمار الأرض .

    تعكس خلافة الإنسان في الأرض أسْمَى مراتب التَّكريم الإِلَهي؛ ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) [البقرة: 30].

 

خامسًا: تسخير ما في الكون لِخِدمة الإنسان

    ولِتَحقيق هذه الخلافة سخَّر الله - عزَّ وجل - للإنسان السَّماوات والأرض وما بينهما؛ ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ) [إبراهيم: 32 - 34]، وقال تعالى أيضًا:( أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ) [لقمان: 20]،

 

سادسًا: استيعاب الإنسان للعلوم.

    قال - عزَّ وجلَّ  ( الرحمن علم القرآن *خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ) الرحمن: 3 - 4، وجَميع ذلك تعليمٌ؛ إذِ التعليم مصدر علَّمَه، إذا جعله ذا عِلْم، مثل أدَّبه، فلا ينحصر في التَّلقين وإن تبادر فيهما عُرْفًا، وأيًّا ما كانت كيفيَّة التعليم، فقد كان سببًا لتفضيل الإنسان على بقيَّة أنواع جنسه بقوَّة النُّطق وإحداث الموضوعات اللُّغوية للتعبير عمَّا في الضمير، وكان ذلك أيضًا سببًا لِتَفاضُل أفراد الإنسان بعضهم على بعض، بِمَا ينشأ عن النُّطق مِن استفادة المجهول من المعلوم، وهو مبدأ العلوم..

    ولاِسْتيعاب الإنسان للعلوم وتعلُّمِها وتعليمها, أودَع اللهُ - تعالى - فيه بعض مفاتيح المعرفة (التفكُّر, النَّظر, العقل, البصر, القلب, اللُّب)..

    قال سبحانه: "أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ :الأعراف .185 وقال ايضا" أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى" الروم: 8

    فهذه المفاتيح المعرفيَّة تَسْمو بالإنسان إلى الطَّاعة والخضوع لله تعالى: ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) فاطر: 28، وتُجَرِّده عن التَّبَعية المُطْلقة والتقليد الأعمى.

    والنَّظرُ والتفكُّر والتعقُّل، والاستدلال بالأدلَّة التي نصَبَها الله لِمَعرفته من أوجَب الواجبات بعد الإيمان الفطري الجبلِّي بالله تعالى, وإلى هذا ذهب البخاريُّ حيث بوَّب في كتابه (باب العلم قبل القول والعمل لقول الله - عزَّ وجلَّ - : ( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) محمد: 19.

 

سابعا: إلغاء الوساطة بين العبد وربه

    وللتأكيد على احترام كرامة الإنسان وحُرِّيته؛ ألغى الشَّارع الحكيم أيَّ وساطة بين الله - عزَّ وجلَّ - وعبْدِه, هذه الوساطة التي تُفْسد التحنُّث والتعبُّد لله، والاعتقاد الجازِمَ به سبحانه, كاتِّخاذ كُفَّار مكَّة الأصنام واسطةً، وقولِهم: ( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) الزمر: 3، وقد تَحُول بين السَّائل ومُناجيه: ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) البقرة: 186   

ثامنا: حقوق الإنسان

    ومِمَّا يصون كرامة الإنسان في الإسلام ضمانُه لِحُقوقه، وترتيبه على الإخلال بها والتعدِّي عليها جُملةً من الحدود، ومن أبرز هذه الحقوق:

    حقُّ المساواة:

    قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ )الحجرات: 13].

    حق الحياة:

    قال تعالى: ( مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا )المائدة: 32.

    حق الملكيَّة:

    قال تعالى: ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) المائدة: 38.

     حق الحُرِّية:

    قال سبحانه:( إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ )المائدة: 33].

     حق العِرْض الشريف

    قال عزَّ وجلَّ:( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)النور: 2].