التعريف بالفرَق بين الخلاف والاختلاف ودوره في احتواء الازمات

صباح الطالقاني                                                                                   

لعل الشيء الذي يجب التركيز عليه عند تناول موضوع الخلاف والاختلاف هو مسألة التعريف بهاذين المصطلحين، وترسيخ التوعية الدالة على الفرق بينهما في الأوساط المجتمعية بكافة طبقاتها وتوجهاتها، وذلك لكون القناعة بأن الاختلاف أمر وارد وشيء طبيعي يحدّ كثيراً من تحوّله الى خلاف وبالتالي وقوع أزمة من شيء كان بالإمكان تلافيه أصلاً.

ان معرفة الفرق بين الخلاف والاختلاف تصل بنا الى تجنّب الخلط بينهما، وتساهم هذه المعرفة في تأصيل أسس العلاقات الاجتماعية السليمة والإحاطة بكيفية احتواء الاختلاف ومنع تحوله الى خلاف، ولنا أسوة حسنة في مجتمعات حديثة تتلاقى فيها مختلف الثقافات والأجناس والأعراق ومع ذلك تعيش بوئام وسلام وألفة واحترام.

ولكن السؤال المحوري هو هل ان الخلاف والاختلاف مصطلحات جديدة وطارئة أوجدتها ظروف معينة؟ أم أنها صفات متأصلة بالإنسان منذ بزوغ فجر الحضارة البشرية؟

لو تناولنا الموضوع من جانب علاقة الحضارات البشرية ببعضها البعض فسنجد طغيان الخلاف على الاختلاف وتحوّل الخلاف الى حالة صراع مرير بلا هوادة، مثلما جرى بين الحضارات القديمة من احتراب ومواجهات دموية طوال قرون، عادةً ما كانت تنتهي بانهيار حضارة وبزوغ حضارة جديدة مكانها، وهذا يدل على ان الإطار الذي تتحرك فيه مرتكزات الانسانية في تلك الحضارات ضعيف الى الحد الذي لا يسمح بظهور تيارات او جهات وأشخاص يدعون للحوار الذي هو في شكل من أشكاله يعني احترام الاختلاف.

ورغم ان الحضارات التي قامت على اختلاف أصولها قدّمت العديد من الانجازات على مستوى البشرية من الناحية العلمية والفكرية والأدبية والثقافية إلا انها لم تتمكن من تقديم أنموذج متكامل يقوم على احترام الاختلاف بصورة كاملة، مثل ما جاء في الأديان السماوية.

الأديان السماوية هي الإرث الحضاري الوحيد الذي لم يفتأ يدعو الى احترام الاختلاف، وسنجد بمجرد الإبحار على ضفاف هذه الرسالات السماوية بأن الاختلاف وارد في التفاصيل ولكنه يؤدي الى نتيجة واحدة يجسّدها مبدأ حفظ كرامة الإنسان.

اليهودية باعتبارها أقدم الأديان السماوية قدّمت أنموذجاً أولياً للعلاقة مع الآخر المُختلف ولكن تم تشويهه فيما بعد، بحسب كتاب (الآخر في اليهودية والمسيحية) من تحرير الدكتورة منى أبو الفضل والدكتورة نادية مصطفى الصادر عن دار الفكر بدمشق 2008م. وهذا التشويه لأصل الرسالة السماوية جاء - بحسب الكتاب -  على شكل تفريق بين الناس بحسب دياناتهم واعتقاداتهم (تتباين النظرة التوراتيّة للآخر وفق ما يدين به فتفّرق بين أصحاب الديانات الشركيّة أو الوثنيين وبين الآخر من غيرهم ممن لا يدين بعبادة الأوثان ونحوها، ولكنها جميعاً تحاول بذلك التخفيف من حدة العداء للآخر).

ويورد الكتاب، النظرة الى الآخَر المختلِف في الرؤية المسيحية ليؤكد (وجود أساس مشترك لرؤية العلاقة مع الآخر لدى الكنائس، وهذا الأساس نابع من الكتاب المقدس، وكل جهد من أي كنيسة أو طائفة مسيحية هو مجرد بلورة لهذه الرؤية. فيرى الكتاب المقدس أن الله ميّز الإنسان عن غيره من الموجودات، ولكن الخطيئة هي التي أدت لاضطراب علاقات الإنسان بأخيه الإنسان الآخر، ولن يكون الخلاص إلا بتنفيذ الوصايا التي هي الشريعة).

وفي موضع الإبحار الخاطف هذا على ضفاف الرسالات السماوية نجد ان رسالة الاسلام التي هي خاتمة الرسالات، تؤكِّد على ان الاختلاف صفة طبيعية نابعة من الاختلاف بين الناس في الثقافات والأفكار والطِباع والعادات والتقاليد والتنافس في الأمور المادية والدنيوية، وأن هناك احترام للانسان بحد ذاته، وفي هذا المجال جاءت آيات قرآنية عديدة كما في قوله تعالى (إِنّ الذينَ آمَنوا والَّذينَ هادُوا والنَّصارى والصّابِئينَ مَنْ آمنَ باللَّهِ واليومِ الآخِر وعمِلَ صالحاً فلهُمْ أَجرُهُم عندَ ربِّهم ولا خوفٌ عليهِم ولا هُم يَحزَنون). 62 البقرة.

ونلاحظ في آية أخرى ان الاختلاف أمرٌ غير خاضع لإرادة الانسان انما هو ارادة إلهيّة كقوله تعالى (ولو شاء ربك لجعلَ الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين). 118. هود.

ان النظر للاختلاف بصورة ايجابية يكشف عن وجود العديد من المزايا التي تنتجها هذه الصفة الملازِمة لبني البشر مثل:

-التكامل بالأفكار، حيث يطرح المتحاورون آراء مختلفة تؤدي بالنتيجة الى رأي جامع متكامل تم انضاجه من خلال أغنائه بأفكار مختلفة.

-التنافس الذي يخلق التطوير والإبداع، بسبب تباين مستوى الفهم وقوة الإدراك واختلاف التجارب وسرعة البديهة بين الناس.

-النظر الى الأمور من زوايا مختلفة، يغني النقاش والبحث فيها، وبالنتيجة الوصول الى رأي جامع قدر الإمكان.

-تقبّل الاختلاف يتيح التعرف على المزيد من مزايا وخبايا الشخصية الانسانية المختلفة عنّا، ويكسبنا المزيد من سعة الأفق والتنوع الثقافي.

-اكتساب مبدأ (الشورى) دلالة واقعية من خلال الاستماع للآراء المختلفة، والتوفيق بينها للوصول الى حلول ترضي الأطراف المعنية وتحيط بكافة جوانب الموضوع، الأمر الذي وردت بحقّه العديد من وصايا وأحاديث أهل البيت عليهم السلام وأهمها وصايا أمير المؤمنين علي عليه السلام حينَ قال (من شاورَ الرجال شاركها في عقولها).