شرق الغرب وانقلاب الصورة

د. هاشم الموسوي

ربما لا يتردد أي شخص معني بفحص العلاقة العريقة والمعقدة بين الشرق والغرب في تأييد الأطروحة الفكرية التي تبناها مجموعة من المثقفين المهتمين بدراسة هذه العلاقة ورصدها عن كثب، أما مفاد هذه الأطروحة فيتمثل بكون العقلية الأوربية المتمركزة حول ذاتها لم تبن أسس هذه العلاقة بعيدا عن روح التحامل المتواصل والماكر الذي مارسته هذه العقلية ضد الشعوب العربية والإسلامية وضد ثقافتها الخاصة، كما تصح هذه المقولة حتى الشعوب الأخرى غير المسلمة التي وقعت تحت نير الاستعمار الأوربي في العصور الحديثة كالشعوب الأفريقية وشعوب الملايو والهندوس وشعوب الهند الصينية وغيرها من مناطق العالم القديم.

ومن المعروف ان الشرق والغرب ليسوا كينونتان متناغمتان متحجرتان، فكلاهما ذو طبيعة معقدة تنطوي على شيء من الغموض والضبابية، كما وانهما غير متجانسين أبدا، لان الشرق تشكّلَ من الحضارات العظيمة التي تقع شرق الكوكب الأرضي، أي شرق الغرب، كحضارة الاسلام والصين والهند واليابان، وليس من الممكن للغرب أن ينكر تاريخ هذه الحضارات ومكانتها المستقرة في سلسلة الحضارة البشرية، بل ان على الغرب أن يميز قوة هذه الحضارات وغناها وثراءها الاقتصادي، فالقوة الثقافية والعسكرية والغنى الاقتصادي والحضاري لتلك الحضارات هو من تسبب بنشوء الاستشراق المصاحب للاستعمار!

لكن ما حدث دائما في هذه العلاقة المعقدة هو قلب لصورة الشرق في المخيلة الغربية التواقة الى سبر اغوار هذه التخوم الجغرافية التي بدت غريبة على اوربا في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، اي قرنا الغزو الاوربي لبلاد الشرق ونهب كنوزها المعرفية والمعدنية المخبأة في باطن الأرض.

ولهذه الصورة المقلوبة تاريخ قديم يعود للحروب الصليبية التي عملت أيامها الذهنية الأوربية على خلق تمثيلات للمسلمين وإدامة استمرارية هذه التمثيلات من خلال وصف أهل بلاد الإسلام الشرقيون على أنهم أشرارا فاسدي الأخلاق ، أو فاسقين وبرابرة، أغبياء قذرين ومن نوع أدنى من البشر يستحق القتل والتشريد أو على الأقل تجب عليهم وصاية من الأوربيين بسبب تدني نوعهم الإنساني وضمورهم العقلي البادي في سلوكهم وتصرفاتهم كما يراها الأوربي الغازي.

وقد لعبت هذه الصور المقلوبة التي لا تتماشى مع الحقيقة لما رسمته المخيلة الاستشراقية للشرق دورا كبيرا في التقاليد البحثية منذ ما يزيد على القرنين وحتى يومنا هذا، وهي صور يرتكز أغلبها إلى جهل مصنوع، أي أن تلك الصور الإكراهيّة وتمثيلاتها قد جرى اختراعها وتلفيقها عن سابق إصرار ولأهداف عدة منها محاولة احتواء ثقافات الشرق وإخضاعها.

ولما كان الإسلام والمسلمين محور الدراسات الاستشراقية لذا فقد تمت دراسة الإسلام لا على ما تمثله حقيقة هذا الدين السماوي وانما باستخدام افكار أوربية عن الله والإنسان والمجتمع والطبيعة والتاريخ والعلوم....الخ، وانطلاقا من ان كل هذا التراث العريق لهذا الدين ما هو إلا تراث متخلف وأدنى قيمة مما لدى الأوربيين!

فمعطيات المسلمين في الفلسفة والادب واللغة والقانون وفروع العلوم الأخرى بحسب أغلب المستشرقين المشتغلين على مبدأ قلب الصورة هي ليست معطيات جديرة بالاهتمام، كذلك لم يكن الطب الإسلامي عند أعلامه من الأطباء الذين تركوا آثارهم جلية على عصور النهضة الأوربية لم يكن طبا ولا يستحق أن يطلق عليه اسم الطب بالمرة، وهكذا الحال بالنسبة لعلوم اللغة والبصريات والكيمياء وسوى ذلك من علوم أخرى .

وفي الفقه الإسلامي فان الاستشراق لم يدرس هذا الحقل المعرفي دراسة متأنية فاحصة، فالفقه ذي التاريخ العريق والتقاليد الضاربة في جذورها الى صدر الاسلام الاول جرى تمييعه عن المستشرقين المغرضين الذين أعادوا تشكيل لبناء لما يوافق مبدأ الصورة المقلوبة من أجل استخدام هذه الصورة غير الواقعية كاستراتيجية لمنافحة المسلمين ومجادلتهم واتهامهم بأنهم أناس محافظون متعصبون ومشدودون الى تاريخ وماض غابر لا يستطيعون عنه حولا ولا بدلا..

وفي مجال القانون والعدالة الاجتماعية جرى تصوير الإسلام ومجتمعاته الممتدة من اسبانيا الى الصين على أنها مجتمعات بلا عدالة ولا مساواة لان طبيعة هذه المجتمعات هي طبيعة استبدادية كما صورها الاستشراق، وان هذا الاستبداد هو نتيجة لغياب مؤسسات المجتمع المدني الذي لم تعرفه حضارة سوى الحضارة الاوربية، وتتمادى هذه الصورة في ابتعادها عن الواقع حين تصور المجتمعات الاسلامية على انها مجتمعات لم تعرف المدن المستقرة والمستقلة، وبالتالي فليست لديها سلطات قانونية مستقلة يدعمها وجود طبقة برجوازية مهذبة تحترم حقوق الأقليات والناس بغض النظر عن معتقداتهم، حيث عرفت هذه المجتمعات غياب شبه تام للمؤسسات المستقلة التي تكون حلقة وصل بين الدولة والأفراد. وعليه فالفرد في المجتمع الإسلامي كما صورته كاميرا الاستشراق معرضا على الدوام لاحتقار السلطة الحاكمة الغاشمة التي لا تعترف بأي دستور أو قانون أو أخلاق خارج إطار قوانين ومفاهيم الحاكم المستبد.

ومن هنا فإن غياب قوانين وأنظمة المجتمع المدني يؤدي الى تعاظم الاستبداد الشرقي على العموم والاسلامي على الخصوص، مما يؤكد – بحسب الصورة الزائفة المرسومة- استحالة انتعاش الاقتصاد الذي يخلق المجتمعات والذي هو في المجتمعات الاسلامية اقتصاد اقطاعي متخلف افرزته البنية الاجتماعيىة الاسلامية!!

إن هذه الصور المغرضة والمقلوبة والتي لا تمثل الا شرقا رسمته مخيلة الغرب هي صور تكاد تتكرر في أغلب أدبيات الاستشراق الذي اعتقد في نفسه منقذا وحيدا لهذه المجتمعات، وهي صور ارادت أن توفر الأرضية للغزو وأن تشرعن الاحتلال وأن تبيح محظورات القتل والإجرام وسفك الدماء التي حرمتها العقائد السماوية والدساتير الأرضية على حد سواء...