خُطّ السّبي على زينب والعلويّات مخطّ القلادة على جيد الفتاة

د. علي المحجوب/ تونس

أمّا أسر زينب والعلويّات فكان مشيئة إلاهيّة لا مناص منها

في أواخر شهر محرّم الحرام ومطلع شهر صفر، أي بعد ما يقرب من عشرين يوما تلت واقعة كربلاء في العراق، وقتل الحسين بن علي مع أرحامه وأصحابه، وردَ إلى الشّام (دمشق) ركب سبايا عيال الحسين بن علي ومن كان معهم في المعركة، ومع الموكب رؤوس الشّهداء تعتلي أسنّة الرّماح.

تصوّر معي يا صاحبي أنّ زينب الكبرى لم تُأسر يوم العاشر من محرّم الحرام (عاشوراء) بعد المقتلة التي أصابت أخويها والهواشم وأصحابهم بكربلاء، وتصوّر معي أنّ الأعداء أكرموها، وأنّهم أعرضوا عن سبّها وضربها وأنّهم لم يلتفتوا إلى قولها إنّهم قتلة فجرة كفرة، وأنّهم اعتبروا ذلك جزعا طبيعيّا لامرأة مكلومة من فراق أحبّتها.

ثم تصوّر أن يزيد بن معاوية اعتذر إليها وإلى علي بن الحسين قبلها لمّا أن وردوا عليه في موكب السّبايا وأنّه تبرّأ من القتلة فعمد إلى هؤلاء فقتلهم وادّعى أنّه ما أمرهم إلاّ بجلب الحسين إليه مبجّلا كي يتداول معه في أمر الرّعيّة، فتطوّعوا هُم من تلقاء أنفسهم فقتلوا الحسين وأصحابه وسبوا العلويّات.

هل كانت نهضة الحسين بن علي لِتَتِمَّ مع ذلك؟

إنّه، من حيث الإمكان، كان يمكن للقتلة أن يفعلوا ذلك للتّلبيس على العامّة. ولقد أُبصرُ اليوم، وتُبصر، كثيرا ممّن يعمد إلى ذلك وهم أقلّ دهاءً، وجملة مستشاريهم كذلك، من اليزيد ومستشاريه وجنده. أوَتَظنّ أنّ الشّيطان يعجز عن أن يوحي فعل ذلك إلى هؤلاء الرّهط؟ أبدًا. لكنّه قد عجز عن ذلك رغم أنّه كان يعالج الأمر بنفسه معهم.

إنّك إن ذكرت قول الحسين عليه السّلام:" خطّ الموت على وُلد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة " وقوله عليه السلام لمّا أنْ ورد أرض كربلاء في محرّم الحرام" ... فهاهنا والله مناخ ركابنا، وهاهنا والله سفك دمائنا، وهاهنا والله هتك حريمنا، وهاهنا والله قتل رجالنا، وهاهنا والله ذبح أطفالنا.... "، وبمثل ذلك أخبر والده علي بن أبي طالب من قبل وهو في ذات الموضع لمّا أن كان في طريقه إلى صفّين، إخبارا عن رسول الله، -إن ذكرت ذلك- علمت أوَّلًا أنّ الحسين قد خرج لِيُقتَل، وذلك قوله عليه السّلام في رسالته الى بني هاشم قبل خروجه “امّا بعد، فإنّ من لحق بي أستشهد ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح، والسّلام". وعلمت ثانيا أن تقدير القتل له ولأصحابه لم يُسْقِطْ عنهم تكليف القتال. ثم علمت، يا صاحبي، أنّ هتك الحريم كان قدَرًا من ذلك القدَر الذي لا مناص منه، وأنّه قتلٌ وسبيٌ على منوالٍ واحد لأجل ذلك الفتح الذي لا يدركه من تخلّف عن الشّهادة مع الحسين بن عليّ وعن السّبي مع العلويّات وغيرهنّ من نساء الرّكب.

فإنّك لو قد تفحّصت قوله عليه السّلام "شاء الله أن يراني قتيلا وأن يراهنّ سبايا" لما أعياك أن ترى أنّ شطر السّبي لا يقلّ قدْرا في مشيئة الله عن شطر القتل. وأنّها مشيئة واحدة، على منوال واحد ولغاية واحدة

فلولا أنّ زينب والهاشميّات قد أُسِرْنَ ما كان لنهضة الحسين أن تؤتي كلّ ثمارها ولكانت سُجِّلت في مخيال السّواد الأعظم من النّاس عِراكًا من أجل مصلحة الدّين قد اجتهد فيه طرفان فأصاب أحدهما دون الآخر. ولَفَهِمَ كثير من المرجفين أنّ القتل إنّما كان لرجال قد خرجوا على الحاكم "الشّرعيّ" بزعمهم، أو أنّه كان خطأً من جماعة لم تُقَدِّر أمر الحاكم حقّ تقديره

فلإنْ قال الحسين عليه السّلام:"خُطَّ الموت على ابن آدم مَخَطّ القلادة على جيد الفتاة. فلقد خُطّ السّبي، بذات مشيئة الله، على زينب والعلويّات مخطّ القلادة على جيد الفتاة. سَبْيًا شُفِعَتْ به شهادة الحسين من أجل ذلك الفتح الذي نهض من أجله.

هل أدركت معي، يا صاحبي، شيئا من قول زينب بنت علي"ما رأيت إلاّ جميلا..."؟ إذْ سألها الشّقيُّ بعد قتلهم:"كيف رأيتِ صنع الله بأخيك وأهل بيتك؟".

إنّ زينب لَكُبرى، وإنّها، يا صاحبي، لأَكْبر ممّا قد يُصوِّر لي ولك المِخْيال. إنّ فيها لَسِرًّا مستودعاً من أمّها وأبيها لا يعلمه إلّا الله ...

وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُور.

...............................................

د. علي المحجوب/ دكتوراه في الهندسة البيولوجية، وماجستير في الحضارة العربية والإسلامية- تونس